lboone1_KENZO TRIBOUILLARDAFP via Getty Images_EUsemiconductors Kenzo Tribouillard/AFP via Getty Images

حِـنكة الإدارة الاقتصادية من أجل التحول الأخضر

باريس ــ في الوقت الحاضر، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديين رئيسيين: تحقيق التحول الأخضر وممارسة القيادة الاقتصادية. وكل من التحديين يشكل بطبيعته تهديدا لوجود الكتلة. وكما يُـعَـد التحول الأخضر ضرورة أساسية لحماية الكوكب الذي يعتمد عليه بقاؤنا، فإن القيادة الاقتصادية ضرورية للحفاظ على النموذج الديمقراطي الرحيم بالبيئة القائم على السوق الذي يدعم أسلوب حياتنا. تقدم لنا حِـنكة الإدارة الاقتصادية الوسيلة للتصدي لكلا التحديين.

تتطلب ممارسة فن الإدارة الاقتصادية تغييرا جذريا في عقلية الأوروبيين. نحن معتادون على كوننا قوة اقتصادية عظمى، لكننا ما زلنا نتعلم إتقان ممارسة السلطة السياسية. الواقع أن الاتحاد الأوروبي كان دائما ممتنعا عن التفكير في الأمر من منظور فن الإدارة الاقتصادية. كان تطوره مدفوعا بالتجارة ومدعوما بنظام اقتصادي دولي قائم على القواعد ودائم التطور ولكن يمكن التنبؤ بتوجهاته في النهاية.

لكن العالَـم تغير. خلال العقدين الأخيرين، وخاصة في السنوات القليلة الفائتة، تسببت سلسلة من الصدمات ــ من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، إلى غزو روسيا الشامل لأوكرانيا ــ في تسليط الضوء على نقاط الضعف التي قد تنشأ بسبب الاتكالية المتبادلة. نتيجة لهذا، شهد الاتحاد الأوروبي "صحوة جيوسياسية"، حيث أدركت البلدان الأعضاء الآن احتياجها إلى قدر أعظم من السيادة لضمان أمنها، ليس فقط عندما يتعلق الأمر بالدفاع، بل وأيضا في ما يتصل بالاقتصاد، وفي عموم الأمر، رؤية أوروبا للعالَـم.

هنا يأتي دور حِـنكة الإدارة الاقتصادية. يتعين علينا أن نعمل على تصميم سياسات اقتصادية تعزز مكانة الاتحاد الأوروبي كقوة ذات سيادة قادرة على ضمان استدامة نموذجها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وإبراز قيمها خارج حدودها. ويجب أن تكون مثل هذه الاستراتيجية مبنية على أربع ركائز.

تتمثل الركيزة الأولى في الاستراتيجية الصناعية. حقق الاتحاد الأوروبي تقدما كبيرا في هذا المجال في السنوات الأخيرة، وخاصة في الأشهر القليلة الماضية. في مجال الطاقة، على سبيل المثال، تبنى الاتحاد الأوروبي خطة تحت مسمى "Fit for 55"، التي تتضمن حزمة شاملة من السياسات تهدف إلى خفض صافي الانبعاثات من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بنسبة 55% على الأقل بحلول عام 2030 والوصول إلى صافي الانبعاثات الصِـفري بحلول عام 2050.

علاوة على ذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إصلاح سوق الكهرباء لديه لتحقيق هدف توليد الكهرباء المنخفضة الكربون بقدر أكبر من المرونة. وهو يعمل على تعميق الارتباطات الداخلية المتبادلة لتأمين إمدادات الطاقة الأوروبية، وبالتالي تقليل الاعتماد على الواردات من الطاقة الأجنبية وعلى الوقود الأحفوري.

PS_Sales_BacktoSchool_1333x1000_Promo

Don’t go back to school without Project Syndicate! For a limited time, we’re offering PS Digital subscriptions for just $50.

Access every new PS commentary, our suite of subscriber-exclusive content, and the full PS archive.

Subscribe Now

يعمل الاتحاد الأوروبي الآن على وضع اللمسات النهائية لمزيد من المبادرات التي من شأنها أن تساعده في الحفاظ على ريادته في مجال التكنولوجيا الخضراء. على سبيل المثال، تُـبـذَل الجهود الآن لتبسيط وتسريع العمليات الإدارية اللازمة، مثل التصاريح وفحص مساعدات الدولة. ويُـعَـد قانون صناعة صافي الصِـفر Net-Zero Industry، الذي اقترحته المفوضية الأوروبية مؤخرا، مثالا واضحا على ذلك.

في الوقت ذاته، كانت فرنسا تدعو إلى إطلاق مبادرات من شأنها تعزيز القطاعات الاستراتيجية، وخاصة تلك المرتبطة بالتحول الرقمي وتحول الطاقة. على سبيل المثال، يهدف قانون الرقائق الأوروبية وقانون المواد الخام الحرجة إلى تعزيز الإنتاج الأوروبي للمكونات الأساسية التي تتألف منها سلسلة توريد التكنولوجيا العالمية. تحتاج أوروبا أيضا إلى التعجيل بالتقدم في إنتاج البطاريات، وهي ضرورة أساسية لتحقيق هدف الحياد الكربوني.

تتطلب الركيزة الثانية التي يقوم عليها فن الإدارة الاقتصادية الأوروبية تعزيز قوة سوقنا الداخلية وعلاقاتنا التجارية مع بقية العالم. وبالفعل، يعمل الاتحاد الأوروبي على توسيع مجموعة أدواته لحماية الأعمال المحلية، من خلال تدابير ترتبط على سبيل المثال بأمن البيانات والبنية الأساسية الحرجة. في الوقت ذاته، يستفيد الاتحاد الأوروبي من حجمه لضمان المعاملة بالمثل من جانب شركائه. فلا تستطيع شركة من دولة ثالثة تقديم عطاءات لمناقصة عامة في الاتحاد الأوروبي إذا لم يفتح بلدها الأصلي عطاءات مماثلة أمام الشركات الأوروبية.

يسعى الاتحاد الأوروبي أيضا إلى معالجة القسر الاقتصادي والممارسات المشوهة للسوق. وسوف تعمل أداة مكافحة الإكراه، التي توصل البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي إلى اتفاق سياسي نهائي بشأنها مؤخرا، على تمكين الاتحاد الأوروبي من الاستجابة لسياسات الذراع القوية الاقتصادية من جانب الخصوم. على نحو مماثل، تعمل ضوابط تنظيم فحص الاستثمار، التي اعتُـمِـدَت في عام 2019، على تمكين الاتحاد الأوروبي من منع الملكية الأجنبية للشركات الاستراتيجية أو الاستحواذ عليها.

أما الركيزة الثالثة فتتمثل في إبراز معاييرنا وطموحاتنا خارج أوروبا. لتحقيق هذه الغاية، أطلق الاتحاد الأوروبي جهودا مُـنَـسَّـقة متضافرة لتعزيز نفوذه في الهيئات المتعددة الأطراف واستخدام سلطته للإبقاء على تركيز هذه المنظمات على أهدافها الأساسية وتعزيز إصلاحات الحوكمة حيثما تقتضي الضرورة.

علاوة على ذلك، من خلال تدابير مثل آلية تعديل الكربون الحدودية وضوابط تنظيم المنتجات الخالية من شُـبهة إزالة الغابات، يضمن الاتحاد الأوروبي تلبية السلع التي يستوردها للمعايير البيئية والاجتماعية الدولية، والأوروبية (الأكثر صرامة في كثير من الأحيان). وفي التفاوض على الاتفاقيات التجارية، يعمل الاتحاد الأوروبي على التوفيق بين ثلاثة معايير: الاستدامة البيئية، والمصالح الاستراتيجية الأوروبية، والتوازن العادل بين الامتيازات.

وتتلخص الركيزة الأخيرة التي تستند إليها حنكة الإدارة الاقتصادية الأوروبية في استخدام أدوات "هجومية" لردع الأعمال الخبيثة من قِـبَـل دول ثالثة. ويشمل هذا بطبيعة الحال عقوبات اقتصادية ومالية، والتي جرى تطويرها سريعا وتطبيقها على نطاق واسع منذ شنت روسيا حربها الشاملة ضد أوكرانيا. لكن السياسة التجارية في عموم الأمر يجب أن تتماشى أيضا مع أهداف السياسة الخارجية.

دأب الاتحاد الأوروبي على تطبيق ضوابط التصدير على السلع المزدوجة الاستخدام لبعض الوقت، وسوف يواصل تطبيقها، مع تنسيق جهوده على المستوى المتعدد الأطراف. لكن الأمر يستلزم بذل قدر أكبر من الجهد. في خضم التوترات الصينية الأميركية المتزايدة الحِـدة، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يختار الانفصال التكنولوجي التام وتعزيز ضوابط التصدير. وتدعو فرنسا إلى إجراء حوار على مستوى الاتحاد الأوروبي حول التكنولوجيات التي لا يرغب في تصديرها.

يجب أن نكون واضحين: إن أوروبا لا تسعى إلى ترسيخ نفسها كقوة اقتصادية جغرافية في مواجهة أي دولة أخرى؛ بل نسعى إلى ضمان استمرار سيطرتنا على مسارانا السياسي والاقتصادي والبيئي والاجتماعي. وحتى في حين نعمل على التأقلم مع الحاجة إلى ممارسة قدر أعظم من القوة، فإننا لن نتنصل من الانفتاح الذي يشكل ضرورة أساسية لنجاح المشروع الأوروبي. نتيجة لهذا، سوف ينمو نفوذنا الدولي، وسوف نتمكن في ذات الوقت من ممارسة اللعبة المعقدة التي أصبحت عليها السياسة الجغرافية، وقيادة العالم في العمل المناخي.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/2GyQtvIar