dahn1_Mark WilsonGetty Images_USfederalreserve Mark Wilson/Getty Images

مشتريات الاحتياطي الفدرالي الأميركي من الديون كإشارة تحذير

الإسكندرية، فيرجينيا ــ في خطاب ألقاه عام 2017، حذر جون وليامز، رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي في سان فرانسيسكو حينذاك، من توابع الأزمة المالية قائلا: "بعد انتهاء الأزمة المالية، ها هي الأشياء تعود إلى وضعها الطبيعي. لكن هذا الوضع الطبيعي (الجديد) قد يبدو شكلا وموضوعا مختلفا تماما عن ما أنت معتاد عليه". ومؤخرا حدد وليامز، المسؤول الآن عن رئاسة الاحتياطي الفدرالي في نيويورك، أسبابا ثلاثة للهبوط المطرد في معدل النمو في الولايات المتحدة وهي: تقاعد أبناء الجيل المولود بعد الحرب العالمية الثانية بين عامي 1946 و1964، وانخفاض معدلات الخصوبة، وتدهور نمو الإنتاجية.

يمثل ضعف القوة العاملة وتردي نمو الإنتاجية سببين نظريين لحالات التباطؤ الاقتصادي. لكن في حالة الولايات المتحدة، يجب أن نضع في اعتبارنا أيضا الآثار السلبية المعروفة للديون. هنا يشير وليام جيل، أحد مؤسسي مركز إيربان بروكينجز للسياسات الضريبية، في كتابه الأخير النظرية المالية إلى دراسات عديدة توضح أن "ارتفاع مستويات الدين يقلل النمو الاقتصادي بدرجات معتبرة اقتصاديا". وتظهر خطورة مشكلة الدين الأميركية جلية في تزايد وتيرة اضطرار مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي للتدخل في أسواق الديون الحكومية بعمليات التيسير الكمي، وإعادة الشراء (الريبو)، وشراء السندات لمنع أوجه العجز الضخمة التي يقرها الكونجرس من رفع أسعار الفائدة وشل الاقتصاد.

بالمثل، نجد راي داليو، مدير صناديق التحوط البارز، في كتابه مبادئ لإدارة أزمات الدين الكبرى، يصف ويسجل ما فعلته البنوك المركزية تاريخيا عندما يفوق مستوى إصدار الدين الحكومي شهية السوق. يرى "داليو" أن الاحتياطي الفدرالي يمر اليوم بموقف مشابه لما حدث في أوائل الأربعينيات، عندما اضطر لتمويل أوجه العجز الحكومي بما يساعد على الفوز بالحرب العالمية الثانية. كان هذا العجز الناجم عن الحرب قرارا سياسيا، تماما كشأن السياسة المالية العامة الحالية لأميركا. فقد اضطر الاحتياطي الفدرالي للتنازل عن استقلاليته بغية أن تفوز أميركا بالحرب، حيث حدد سعر الفائدة لليلة واحدة عند مستوى الصِفر وسعر سندات الخزانة لأجل عشر سنوات باثنين بالمئة، واشترى كل ما احتاجته الخزانة من ديون لإصدارها بهدف تمويل المجهود الحربي. ويشير داليو لتلك الإجراءات بعبارة النوع الثالث من السياسات النقدية، أو (MP3).

في مايو/أيار من عام 2019، استخدم أحدنا (داجر تحديدا) إطار داليو لإثبات أن الاحتياطي الفدرالي جازف مرة أخرى بالانزلاق إلى النوع الثالث من السياسات النقدية وفقدان استقلاليته. وبعد أشهر قلائل، تفاعل الاحتياطي الفدرالي مع أزمة أسواق إعادة الشراء (الريبو) ونقص الدولار بعمليات واسعة من إعادة الشراء وشراء سندات الخزانة لإبقاء أسعار الفائدة تحت السيطرة. لو أضفنا إلى ذلك استمرار ضعف النمو وارتفاع مستويات الدين الحكومي، لوجدنا أن تلك التحركات تؤكد أن الاحتياطي الفدرالي قد أضحى بنكا مركزيا يتبنى النوع الثالث من السياسات النقدية.

لكن هذا "الوضع الطبيعي الجديد" ليس قابلا للاستدامة، بل يمثل على العكس تنبيها واضحا إلى حتمية أن يفيق واضعو السياسات الأميركيون من سباتهم ليتحركوا بنفس القدر من السرعة واستشعار الحاجة الملحة الذي أظهره أسلافهم إبان الحرب العالمية الثانية. فمع هبوط معدل البطالة لأدنى مستوى له في 50 عاما، لا يفترض أن يكون الاقتصاد بحاجة إلى دفعات ضخمة من الدعم المالي والنقدي. ولن يفضي التمادي في "الوضع الطبيعي الجديد" إلا إلى تواصل الدائرة المفرغة للدين المستنزف للنمو. غير أن الخروج من هذه الورطة يتطلب تحولا في التفكير يعكس تعاقب الأجيال.

خلال الحرب العالمية الثانية، كان التهديد الوجودي يتمثل في الإمبريالية الفاشية، وكان النوع الثالث من السياسات النقدية جزءا من التفاعل الأميركي مع ذلك الواقع. وها هي الولايات المتحدة اليوم قد ارتدت إلى ذلك النوع من السياسات في مواجهة تهديد أقل وضوحا لكنه وجودي بنفس القدر، وهو تحديدا النزوع إلى المكاسب القصيرة الأجل والتجاهل واسع النطاق لأزمات تمتد لأجيال كتغير المناخ والإفراط في الدين الحكومي.

Winter Sale: Save 40% on a new PS subscription
PS_Sales_Winter_1333x1000 AI

Winter Sale: Save 40% on a new PS subscription

At a time of escalating global turmoil, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided.

Subscribe to Digital or Digital Plus now to secure your discount.

Subscribe Now

وهنا، يستغل أعضاء جماعات الضغط وعملاؤهم هذا التجاهل لرفاهية الأجيال القادمة حينما يتلاعبون بآلية الانتخابات والحكم، ويسرقون من المستقبل بأساليب متنوعة كتخفيضات الضرائب غير المبررة، والإنفاق الذي يخدم المصالح الذاتية، والسياسات التنظيمية التي تخدم أغراض الثراء الذاتي. وبسبب النزوع إلى المكاسب القصيرة الأجل، تمكن نخبة هذا العصر من الإفراط في استغلال البيئة، وإغراق الحكومة في الديون، وتقليل الاستثمار في الشباب، فكان عاقبة ذلك اتساع فجوات التفاوت، واشتداد قسوة الظروف المناخية المتطرفة، وتضخم مديونية الحكومة، وظهور جيل من الشباب البالغين يقترب مستواهم التعليمي من الحضيض بين دول متقدمة، واقتصاد يعيش على عجز متضخم وأسعار فائدة متدنية.

أصاب داليو حينما تحدث عن الاصطدام بالتهديدات الوجودية قائلا: "إن أسوأ شيء قد تفعله دولة، أو زعيم دولة، حينها هو التورط في الديون المفرطة وخسارة حرب، لأنه ليس هناك ما هو أكثر تدميرا من ذلك."

بدلا من ذلك، ينبغي للولايات المتحدة شن حرب على تلك النزعة المتركزة على المكاسب القصيرة الأجل بتفعيل قوانين الضرائب بحذافيرها فعليا. ويكفي أن نعلم أنه في عام 2019 تجاوزت تكلفة التهرب الضريبي على المواطنين 600 مليار دولار في السنة. كما أن التغاضي عن مثل تلك المستويات من السرقة الضريبية يفضي إلى تآكل المال العام ويشجع الغش في كل المجالات، إذ كيف يمكن أن نطلب من أي شخص الالتزام بالقوانين الضريبية، أو أية قوانين من هذا القبيل، إذا كان المتهربون من الضرائب يستطيعون السرقة دون رادع؟

بلا شك، تتسبب أنشطة مجرمي الضرائب في زيادة ذلك النوع من "الديون الباهظة" التي تثقل كاهل الأجيال، والتي حذر منها ألكسندر هاملتون في خطابه الأول إلى الكونجرس بصفته وزيرا للخزانة. ولا نبالغ إذا قلنا إن جمع الحقوق المستحقة للدولة من شأنه أن يخفض العجز في الموازنة الأميركية، الذي يبلغ الآن 900 مليار دولار، بمقدار الثلثين. في الوقت ذاته، سيثبت هذا للعامة أن الولايات المتحدة جادة بشأن تطبيق مبدأ سيادة القانون وقواعد الإنصاف الأساسية، كما سيحدد مسار التحول في أولويات الميزانية الذي تحتاجه الولايات المتحدة بشدة وإلحاح.

ينبغي أن تكون مصالح الأجيال القادمة بوصلة هذا التحول. ولن يختلف غالبية الشعب على أن للشباب والأجيال الأميركية التي لم تولد بعد الحق في بيئة صالحة للعيش، والحق في أن لا يُثقل كاهلهم بالديون الباهظة، والحق في تعليم يعينهم على أن يصبحوا مواطنين منتجين. بالتركيز على مثل تلك الأولويات، ستتمكن الولايات المتحدة من الهروب من مستنقع النوع الثالث من السياسات النقدية والتغلب على محنة النزوع إلى المكاسب القصيرة الأجل، بما يصب في مصلحة الأجيال الحالية والقادمة.

ترجمة: أيمن أحمد السملاوي            Translated by: Ayman A. Al-Semellawi

https://prosyn.org/RusieB8ar