ahuq4_Aaron SchwartzXinhua via Getty Images_supreme court Aaron Schwartz/Xinhua via Getty Images

المحكمة العليا تزعزع أركان الأسس المالية في أميركا

شيكاغوــ الأميركيون مشهورون بتحويل كل نزاع تقريبا إلى دعوى قضائية. لكن الشروط الأساسية للعقد المالي في أميركا، والذي يحدد الكيفية التي تمول بها الحكومة الفيدرالية عملياتها ــ السلع والخدمات التي تقدمها ــ ظلت حتى الآن حصينة ضد الطعون القانونية. وقد هددت قضيتان رفعتا مؤخرا أمام المحكمة العليا بتغيير هذه الحال. كان مصير القضيتين الفشل، ولكن بالكاد، ومن غير المرجح أن تستسلم القوى التي دفعت بهما في أي وقت قريب.

منذ تسعينيات القرن العشرين، دأب المحامون والقضاة المحافظون في الولايات المتحدة بانتظام على مهاجمة الصلاحيات الشاملة المفترضة التي تتمتع بها الحكومة الفيدرالية. ففي عهد رئيس المحكمة العليا السابق وليام رينكويست، قيدت المحكمة العليا سلطات الكونجرس في تنظيم السلوك الخاص. وفي عهد رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، الذي ترأس المحكمة منذ عام 2005، كانت المحكمة معادية للنطاق التنظيمي الذي تتمتع به الوكالات الإدارية، فأصدرت قرارات عرقلت تنفيذ سياسات مثل قانون الرعاية الميسرة الذي أَقَـرَّه الرئيس باراك أوباما (أوباما كير).

لكن هذا التحول المناهض للتنظيم في القانون الدستوري الأميركي لم يهدد قَـط قدرة الحكومة الأساسية على العمل. ثم تغيرت الحال في عامنا هذا، عندما أطلق محامون محافظون جهودا مالية جبارة في محاولة لتسريع الأجندة الـمُـناهِـضة للتنظيم.

استهدفت القضية الأولى النظام الضريبي. في قضية مور ضد الولايات المتحدة، طعن زوجان ــ آل مور ــ في أحد أحكام قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017 الذي يفرض ضريبة لمرة واحدة على الأرباح المتراكمة غير الموزعة التي تعود على مساهمين أميركيين في شركات أجنبية. زعم جانب الادّعاء أن "ضريبة إعادة الأرباح الإلزامية" هذه تنتهك التعديل السادس عشر لدستور الولايات المتحدة ــ الذي يخول الحكومة الفيدرالية فرض ضرائب على الدخول من أي مصدر دون تجزئة أو إحصاء ــ وحث المحكمة على حصر هذه السلطة في الدخل "المحقق".

لكن قانون الضرائب الأميركي عامر بالأحكام التي تعامل دخل الكيان باعتباره دخل مالكيه، حتى لو لم يكن المال في أيديهم. فالشراكات، والشركات التي تُـحَـوِّل الدخل والخسائر إلى المساهمين، والسندات، والعقود الآجلة، والشركات الأجنبية المملوكة لأميركيين، كلها تخضع للضريبة على هذا النحو. وعلى هذا، فلو قَـضَـت المحكمة العليا لصالح آل مور، فإنها كانت لتطلق العنان لطوفان من الطعون القانونية في قانون الضرائب، وكان هذا لـيُـفضي إلى إحداث ثقب هائل في الميزانية الفيدرالية.

حتى لو فازت الحكومة بكل طعن جديد مستلهم من قضية مور ضد الولايات المتحدة، فإن انعدام اليقين بشأن التزامات ضريبة الشركات كان ليقض مضاجع الأسواق المالية، ويثير الشكوك حول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للشؤون الاقتصادية قبيل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني. وفي الأمد البعيد، كانت قاعدة "التحقق" لتضعف قدرة الحكومة على منع التهرب الضريبي من جانب الشركات والأفراد.

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible
PS_Quarterly_Q3-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: The Climate Crucible, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

النبأ السار هنا هو أن المحكمة العليا الأميركية قَـضَـت ضد آل مور، حيث أَقَّـرَ القاضي بريت كافانو في رأيه بأن فرض قيد على تحقيق ضرائب الدخل من شأنه أن يؤدي إلى اندلاع "كارثة مالية". لكن النبأ السيئ هو أن المحكمة كانت منقسمة، حيث كان اثنان من قضاة المحكمة العليا على استعداد لقبول احتمالات الاضطرابات المالية. حتى أن القاضي كلارنس توماس، الذي كشف للتو عن مجموعة من "الهدايا" من الملياردير هارلان كرو، بدا وكأنه يرحب باحتمالات الأزمة.

في القضية الثانية، استهدفت جمعية الخدمات المالية المجتمعية في أميركا، وهي مجموعة تجارية تعمل في الصناعة المصرفية، مكتب الحماية المالية للمستهلك، والذي ينظر إليه المحافظون باعتباره مصدرا للتنظيم الـمُـفرِط. وفقا للشكوى، تنتهك بنية تمويل مكتب الحماية المالية للمستهلك "فقرة المخصصات" في دستور الولايات المتحدة، والذي ينص على أن الإنفاق الفيدرالي يجب أن يكون "لاحقا للمخصصات التي يقررها القانون".

المشكلة التي تواجه المتقاضين هي أن الكونجرس اتخذ قرارا ضد المخصصات الدورية (السنوية عادة) لبعض وكالات التنظيم المالي، وسمح لها بدلا من ذلك بتمويل نفسها من مصادر أخرى (مثل الرسوم أو مدفوعات الفائدة). في حالة مكتب الحماية المالية للمستهلك، يأتي التمويل عبر أرباح نظام الاحتياطي الفيدرالي.

وكما حدث في قضية مور، طلب جانب الادعاء من المحكمة إصدار حُـكـم تمييزي جديد لمنع مثل هذه الأنشطة "غير الدستورية". ولو تمكنوا من تحقيق مرادهم، فإن عددا كبيرا من الهيئات التنظيمية المالية، وليس فقط مكتب الحماية المالية للمستهلك، كانت لتجد نفسها بلا ميزانية. وكنا لنشهد موجة عارمة من الدعاوى القضائية الجديدة التي تطعن في آليات تمويل أخرى داخل الحكومة الفيدرالية.

وهنا يبرز أحد المخاطر: ذلك أن آلية تمويل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تشبه آلية تمويل مكتب الحماية المالية للمستهلك، من دون مخصصات دورية. ورغم أن المدّعين بذلوا جهودا مميزة لإثبات أن حججهم لا تنطبق على بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن الفوارق التي أشاروا إليها كانت واهية. وعلى هذا فإن الحكم ضد مكتب الحماية المالية للمستهلك كان ليفتح الباب أمام الطعن في بنية تمويل بنك الاحتياطي الفيدرالي، في وقت حيث تتكاثر الهجمات على استقلاله.

في أقل تقدير، كان ظل من انعدام اليقين القانوني لـيُـلقى على الاحتياطي الفيدرالي. بل وربما كان البنك ليواجه تجميدا دستوريا، مع عواقب وخيمة تتحملها الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. الحقيقة الصادمة هنا هي أن اثنين من قضاة المحكمة العليا ــ صامويل أليتو ونيل جورسوتش ــ كانا على ما يبدو متسامحين مع هذا الاحتمال.

لماذا يحاول المتقاضون زعزعة استقرار الأسس المالية الأميركية، وكيف تُـعَـد قضاياهم جديرة بالاهتمام النادر من جانب المحكمة العليا؟ الإجابة بسيطة: إن الأغلبية المشروطة المحافظة لقرارات المحكمة بواقع ستة إلى ثلاثة أصوات، بعد أن أظهرت استعدادها لتقويض سلطات الحكومة القائمة منذ أمد بعيد لدعم حملة مناهضة للقيود التنظيمية، شجعت كلا من الانتهازيين والمذهبيين.

يسعى الانتهازيون إلى استغلال القانون الدستوري لتحقيق مكاسب شخصية: فقد سعى آل مور إلى تحقيق مكاسب غير متوقعة، وكانت الشركات التي تحدت مكتب الحماية المالية للمستهلك تريد تجنب عقوبات مالية. من منظورهم، يُـعَـد انعدام الاستقرار الجهازي مجرد أثر جانبي. ومن جانبهم، يسعى المذهبيون إلى الاستفادة من الأغلبية المشروطة في المحكمة العليا لدفع أجنداتهم بشأن قضايا مثل الدين، والإجهاض، وحقوق المثليين، وحجم الحكومة.

لقد أظهر المحافظون الأميركيون منذ فترة طويلة تشككا عميقا ومدمرا في الحكومة الفيدرالية. وعلى حد تعبير المحامي الـمُـناهِـض للضرائب جروفر نوركويست فإن الهدف يتمثل في تقليص حجم الحكومة إلى تصبح صغيرة بالقدر الكافي "لإغراقها في حوض استحمام". في عهد دونالد ترمب، تحول هذا إلى حرب عدمية تآمرية على "الدولة العميقة" الفيدرالية. وإذا أدت هذه الحملة الشعواء إلى اندلاع أزمة، كما يعتقد أشد أنصارها حماسة، كان ذلك أفضل: فالمجتمع الأميركي في احتياج إلى عملية إعادة تشكيل جذرية.

وقد تتحقق أمانيهم. فبفضل حلفائهم في المحكمة العليا، بدأت الهجمات على النظام المالي الأميركي للتو.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/4lU6YQ1ar