دونالد رمسفيلد الجديد في أوروبا

لقد بات من شبه المؤكد أن تسفر انتخابات البرلمان الروسي (الدوما) عن تعزيز سلطة القوى الموالية للرئيس فلاديمير بوتن . ومن المرجح أن تؤكد هذه النتيجة على بروز روسيا باعتبارها صاحبة القضية الأكثر إثارة للجدال والشقاق في الاتحاد الأوروبي منذ قَـسَّـم دونالد رمسفيلد القارة إلى أوروبا "القديمة" وأوروبا "الجديدة". أثناء فترة التسعينيات توصلت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بسهولة ويسر إلى الاتفاق على أسلوب مشترك في التعامل مع روسيا. فقد اتحدت حول إستراتيجية تقوم على تحويل روسيا الضعيفة المثقلة بالديون إلى نموذج ديمقراطي غربي.

الآن أصبحت هذه السياسة أشلاءً ممزقة. فقد تسببت أسعار النفط والغاز التي بلغت عنان السماء في جعل روسيا أكثر قوة، وأقل تعاوناً، وأقل رغبة في الانضمام إلى الغرب. واليوم بات الأوروبيون عاجزين حتى عن الاتفاق على طبيعة النظام الحاكم في روسيا، ناهيك عن السياسة الواجب تبنيها في التعامل معها.

يكمن جزء من أسباب هذه الحيرة في براعة بوتن في وضع نفسه في الموضع المناسب على الصعيد السياسي. فهو من ناحية يحتاج إلى تعظيم سيطرته على الاقتصاد والمجتمع حتى يتمكن من رفع المرتبات ومعاشات التقاعد، وبالتالي كتم أصوات معارضيه وخصومه، بينما يتمكن من تغذية قائمة المحسوبية الطويلة التي تساعد في إبقائه في السلطة. ومن ناحية أخرى يريد أهل النخبة في موسكو ـ والذين يخشون أن تجردهم أي حكومة مستقبلية من أصولهم ـ أن يتجنبوا حالة النبذ التي تعيشها روسيا على المستوى الدولي حتى يصبح بوسعهم أن يمضوا خريف حياتهم في أمان الغرب إذا لزم الأمر.

استعان بوتن بشبكة متينة محكمة من المستشارين السياسيين في حل أحجيته. فبدلاً من إنشاء نظام ديكتاتوري، ساعدوا بوتن في استغلال زخارف الديمقراطية الليبرالية في ترسيخ سلطته. فعن طريق السماح بتأسيس أحزاب سياسية معارضة زائفة، وإنشاء جماعات ضغط كاذبة ومنظمات مثل منظمة "ناشي" (ما لنا)، وإعادة صياغة حكم القانون وتشكيله كأداة لاكتساب السلطة السياسية، نجح بوتن في إحكام قبضته على روسيا على نحو أشد فعالية وأكثر أناقة، مقارنة بالعديد من الأنظمة الاستبدادية الأخرى. ومما لا شك فيه أن احتمالات ترشحه لمنصب رئيس الوزراء، سعياً إلى استئناف حكمه حين تنتهي ولايته كرئيس للبلاد، تشكل امتداداً لهذا التوجه.

رغم فشل الاتحاد الأوروبي في تغيير روسيا أثناء عهد بوتن ، إلا أن روسيا كان لها تأثير ضخم على الاتحاد الأوروبي. فعلى صعيد الطاقة، تعمد روسيا إلى عقد اتفاقيات منفردة طويلة الأمد مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يقوض مبادئ الاتحاد الأساسية التي تقوم على تبني إستراتيجية مشتركة. وفيما يتصل بقضية كوسوفو، تتعمد روسيا إعاقة أي تقدم لهذه القضية في الأمم المتحدة. وفي القوقاز ووسط آسيا نجح الكرملين في إبعاد الاتحاد الأوروبي عن المناطق التي تقتضي مصالحه فيها دعم الإصلاح السياسي، وحل الصراعات، وتشكيل الشراكات في مجال الطاقة.

وفي أوكرانيا ومولدوفا عمل الكرملين جاهداً ـ وصادفت جهوده بعض النجاح ـ على إضعاف جاذبية أوروبا. ففي نظر بعض البلدان المجاورة برزت روسيا باعتبارها بديلاً إيديولوجياً للاتحاد الأوروبي الذي يعرض تناولاً مختلفاً لقضايا السيادة، والسلطة، والنظام العالمي. فبينما يقوم المشروع الأوروبي على حكم القانون، تعتقد روسيا أن القوانين لابد وأن تتغير بحيث تعكس تغير موازين القوى.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

فضلاً عن ذلك، تحاول روسيا بناء علاقة "غير متساوقة" بينها وبين الاتحاد الأوروبي. فبينما يعتقد زعماء الاتحاد الأوروبي أن السلام والاستقرار يقومان على الاعتماد المتبادل، يسعى قادة روسيا إلى خلق موقف حيث يصبح الاتحاد الأوروبي محتاجاً إلى روسيا أكثر من حاجة روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، وخاصة في قطاع الطاقة.

رغم أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي ليس أضخم من الناتج المحلي الإجمالي لبلجيكا وهولندا مجتمعتين، ورغم أن إنفاقه العسكري يعادل جزءاً ضئيلاً من إنفاق الاتحاد الأوروبي العسكري، إلا أن الكرملين كان ينجح دوماً في التفوق على الاتحاد الأوروبي في هذا السياق. والمشكلة الأساسية هنا هي أن الأوروبيين قد أهدروا أقوى مصادر قوتهم: ألا وهو الاتحاد.

تنقسم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى طائفتين، الأولى تنظر إلى روسيا باعتبارها شريكاً محتملاً يمكن جذبه إلى مدار الاتحاد الأوروبي من خلال عملية "التكامل التدريجي البطيء". والثانية ترى في روسيا تهديداً، وعلى هذا فلابد من مواجهة طموحاتها التوسعية وازدرائها للديمقراطية بانتهاج سياسية "الاحتواء الناعم". ولقد أثبتت السنوات القليلة الماضية خطأ كل من النظرتين.

فالتوجه الأول ينطوي على المجازفة بمنح روسيا القدرة على الحصول بسهولة ويسر على فوائد التعاون مع الاتحاد الأوروبي، دون الإصرار على التزامها بقواعد ثابتة مستقرة. أما فيما يتصل بالتوجه الثاني فإن العداء الصريح تجاه روسيا من شأنه أن يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يعتمد على روسيا لمساعدته في معالجة مجموعة من المشاكل المشتركة ـ من التلوث البيئي والهجرة غير القانونية، إلى منع الانتشار النووي والوضع النهائي لكسوفو.

إن الاتحاد الأوروبي يحتاج بصورة ملحة إلى تبني توجه جديد. فبدلاً من محاولة تحويل روسيا إلى الديمقراطية أو احتوائها، يتعين على الاتحاد أن يرضى بتحقيق هدف أضيق يتلخص في تحويل روسيا إلى شريك يمكن الاعتماد عليه، ويلتزم بحكم القانون. ومن المؤكد أن الاتفاق على تناول مشترك لهذه القضية من شأنه أن يمنح الاتحاد الأوروبي العديد من مواطن القوة فيما يتصل بضمان احترام روسيا للمعاهدات والاتفاقيات المتبادلة.

وعلى المستوى الدبلوماسي، يستطيع الأوروبيون أن يهددوا بحرمان روسيا من المكانة التي تستمدها من المشاركة في مجموعة الثمانية والقمم التي تنعقد دورياً بين قادة الاتحاد الأوروبي وروسيا. ويتعين عليهم أيضاً أن يسعوا إلى تعزيز الديمقراطية وحكم القانون في المناطق المجاورة للاتحاد الأوروبي عن طريق تقوية العلاقات بين الاتحاد ودول مثل جورجيا وأوكرانيا.

لابد أيضاً من توظيف القوة الاقتصادية. فمن الأهمية بمكان أن يُـخْـضِع الأوروبيون الاستثمارات الروسية في أسواق الاتحاد الأوروبي للمزيد من التدقيق وأن يستخدم قانون المنافسة في إجراء التحريات بشأن الممارسات الاحتكارية وعمليات غسل الأموال التي تقوم بها الاستثمارات الحالية. وفي نفس الوقت، تستطيع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تستهدف مصالح الأفراد من أهل النخبة في الكرملين عن طريق تدقيق ومراجعة مشترياتهم من الأصول الغربية، بل وحتى حظر سفر منتهكي حقوق الإنسان إلى الاتحاد الأوروبي.

ما دام الاتحاد الأوروبي مستمراً في التأرجح بين التكامل والاحتواء، فسوف يستمر في الظهور أمام الكرملين بمظهر الحائر الضعيف. ولن يسفر هذا إلا عن تشجيع روسيا على تبني المزيد من السياسات العدوانية.

https://prosyn.org/UKXQ8zbar