james219_Alastair Grant - PoolGetty Images_liztrussmacron Alastair Grant/Pool/Getty Images

لحظة تراس

برينستونــ "Trussing" فِعل إنجليزي قديم له دلالات شَـتَّـى. فقد يعني وضع عوارض لدعم مبنى أو جسر، أو ربط ديك رومي قبل شوائه. ولكن منذ ولاية ليز تراس (Liz Truss) الوجيزة الكارثية في منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة في خريف عام 2022، أصبح يشير أيضا إلى حكومة مُـنـهَـكة ماليا وتطلق وعودا غير واقعية إلى حد بعيد والتي تنتهي إلى دموع وأحزان. لم يعد فِـعل الدعم (Trussing) يعني دائما تثبيت الاستقرار؛ ففي بعض الأحيان، يعني العكس.

يشهد عامنا هذا عددا كبيرا من الانتخابات المصيرية، وجميعها تخيم عليها مخاوف الانتهاء إلى المصير الذي انتهت إليه حكومة ليز تراس. انهارت حكومة تراس بعد أن تسببت التخفيضات الضريبية غير الممولة التي أقرتها بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني (57 مليار دولار أميركي) في إحداث حالة من الذعر المالي أجبرت بنك إنجلترا على التدخل لشراء أوراق مالية حكومية. وقد أوضح بنك إنجلترا أن دعمه سوف يستمر حتى الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول. في ذلك اليوم، اضطر وزير الخزانة كواسي كوارتنج إلى الاستقالة، تاركا تراس لتبحث عن شخص يمكنه العمل مع الأسواق وليس ضدها. لكن حكومتها انتهت.

يتجلى الخوف من الانتهاء إلى مصير أشبه بمصير حكومة تراس في أوضح صوره في فرنسا، حيث صدم الرئيس إيمانويل ماكرون الجميع بحل الجمعية الوطنية في أعقاب أداء حزبه الكارثي في انتخابات البرلمان الأوروبي. ويبدو أنه يريد أن يثبت عدم وجود بديل لسياساته. ولكن إذا تسنى لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف تشكيل الحكومة، وهو ما يبدو في حكم الممكن على نحو متزايد بعد فوزه بنحو 34% من الأصوات في الجولة الأولى، وتنفيذ وعوده السابقة بزيادة الإنفاق بدرجة كبيرة، فسوف يُـفضي هذا على الفور إلى إشعال شرارة انهيار مالي. كان مجرد الإعلان عن انتخابات مبكرة كافيا للتسبب في ارتفاع حاد في عائدات السندات، والذي أدى إلى اتساع الفجوة بين أسعار الأوراق المالية الفرنسية والألمانية.

الواقع أن مناورة ماكرون يمكن فهمها على أفضل وجه باعتبارها وسيلة لترويض اليمين، أو إثبات أن وعود اليمين مجرد عبارات خطابية فارغة. لكن قراره له بعض السوابق التاريخية المرعبة من فترة ما بين الحربين، عندما فشلت ديمقراطيات أوروبية عديدة. لنتأمل هنا حالة ألمانيا. بحلول شتاء عام 1932، فشلت عمليتان انتخابيتان برلمانيتان منفصلتان في إفراز نتيجة من الممكن أن تؤدي إلى تشكيل حكومة تتمتع بأغلبية فَـعّـالة. جلبت الانتخابات مكاسب كبيرة للحزب النازي (على اليمين) والشيوعيين (على اليسار)، ولكن في الانتخابات الثانية، كان أداء النازيين أسوأ من المتوقع، حتى على الرغم من احتفاظهم بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية.

وهكذا، في نهاية يناير/كانون الثاني 1933، قرر فرانز فون بابن، الذي كان مستشارا بلا أغلبية في النصف الثاني من عام 1932، أن يخوض مجازفة خطيرة: محاولة إقناع الرئيس الـخَـرِف بول فون هيندينبيرج بتعيين أدولف هتلر رئيسا لحكومة ائتلافية، وبالتالي السماح للزعيم النازي بإثبات عجزه. حتى أن بابن قال في ابتهاج شديد إن هتلر سيجد نفسه "مُـحاصَـرا".

بالطبع، سارت الأمور على نحو مختلف تمام الاختلاف، وبدا بابن وكأنه أحمق (وفي نهاية المطاف وكأنه مجرم حرب). فقد خاض هذه المقامرة في وقت حيث بدأ الاقتصاد الألماني يتعافى ببطء من أزمة الكساد الأعظم، عندما أصبحت الدولة التي سيسيطر عليها هتلر قادرة على المناورة دون قيود كبيرة من رأس المال الدولي (الذي تعطل بفعل انهيار الأسواق المالية) أو البنك المركزي (الذي أُخـضِـع لسيطرة الحكومة). بعبارة أخرى، لم يواجه هتلر أيا من القوى الخارجية التي تحدد مصير الحكومات الأشبه بحكومة تراس.

Secure your copy of PS Quarterly: Age of Extremes
PS_Quarterly_Q2-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: Age of Extremes

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: Age of Extremes, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

في الانتخابات الفرنسية التي ستُعقد هذا الصيف، سيكون البديل لحزب التجمع الوطني هو الجبهة الشعبية الجديدة، التي يستحضر اسمها بوعي تعبئة اليسار في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين تحت قيادة الجبهة الشعبية بزعامة ليون بلوم. كان أعضاء كتلة بلوم الشيوعية الاشتراكية يعتقدون أن البنك المركزي الفرنسي والبنوك التجارية الكبرى أسقطت الحكومة بحصارها داخل "جدار من المال" في أواخر عشرينيات القرن العشرين. (عندما أسقط بنك إنجلترا حكومة حزب العمال البريطانية في عام 1931، تأكدت شكوكهم حول الدور الذي يلعبه رأس المال في السياسة).

تواجه فرنسا اليوم معضلة مزدوجة. ذلك أن كلا من الائتلافين المناهضين لماكرون من اليسار واليمين سيكون راغبا في متابعة النشاط المالي ــ بمعنى زيادة الإنفاق، وفي حالة الجبهة الشعبية الجديدة، فرض زيادات ضريبية كبيرة ــ وهذا من شأنه أن يؤدي على الفور إلى إشعال شرارة بيع السندات بثمن بخس. ومع ذلك، سيكون كل منهما معتمدا بشكل كبير على البنك المركزي الأوروبي.

البنك المركزي الأوروبي أيضا سيواجه مُـعضِـلة. فإما أن يبدأ في شراء أصول ضخمة والمجازفة بخلق سابقة خطيرة، أو أن يرفض ويخاطر بوصمه بأنه عميل للقمع الألماني. وعلى هذا فإن المصير الذي انتهت إليه حكومة تراس يسلط الضوء على الطرق التي تحد بها البنوك المركزية من عمل الحكومة وتفرض شروطا متوافقة مع الاستمرار في الوصول إلى الأسواق الدولية. وليس من قبيل المصادفة أن يميل البديلان الفرنسيان الحاليان بشدة إلى النعرة القومية.

لكن البدائل متوفرة دوما. في عام 1983، عندما كانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تواجه كارثة، تصور بعض المنتمين إلى اليسار ضرورة التحول إلى الاكتفاء الذاتي، أو العودة إلى التطرف الراديكالي على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين. لكنهم هُـمِّـشوا، وتولى جاك ديلور، وزير المالية آنذاك، قيادة فرنسا وإعادتها إلى أوروبا والوسطية السياسية.

تنعكس غرابة الموقف الحالي في الفارق الواضح بين حالة الذعر والعصبية في الحملة الانتخابية الفرنسية والهدوء شِـبه المخيف الذي يميز الانتخابات البريطانية التي تنعقد في ذات الوقت تقريبا. يخوض حزب العمال في المملكة المتحدة الانتخابات وهو يضمن تحقيق فوز حاسم لأنه استوعب تماما الدروس المستفادة من الارتباكات السابقة. الواقع أن وعوده السياسية تستند إلى أساس من المسؤولية المالية والمصداقية.

على الرغم من الدروس التاريخية، سوف يستمر الساسة من أمثال ليز تراس في شيطنة البنوك المركزية. وقد يحدث هذا في فرنسا هذا العام، ومن المرجح أن يحدث في الولايات المتحدة إذا فاز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. كثيرا ما تؤدي القيود المفروضة على عمل الحكومة إلى دفع المواطنين الغاضبين إلى المطالبة بخيارات أكثر تطرفا وزعزعة للاستقرار، وقد يُـفـضي هذا إلى انغلاق البلدان على نفسها والتخلي عن الالتزامات الدولية، وليذهب الاستقرار المالي إلى الجحيم.

ترجمة: إبراهيم محمد علي       Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/IbIOKy2ar