ve1561c.jpg Chris Van Es

لا تحاكوا نموذج الرعاية الصحية الأميركي

تورنتو ــ مع استعداد المحكمة العليا في الولايات المتحدة للبدء في دراسة قانون الرعاية الميسورة التكلفة (إصلاح الرعاية الصحية التاريخي الذي سخر منه الخصوم فأطلقوا عليه وصف "أوباما كير")، فمن الجدير بالملاحظة أن عدد الأميركيين المحرومين من التأمين الصحي بلغ أعلى مستوياته على الإطلاق في عام 2010، أي في نفس عام صدور القانون. فنحو خمسين مليون أميركي (واحد من كل ستة أميركيين) يدفعون من جيوبهم الخاصة لتغطية نفقاتهم الطبية.

ولم يكن الركود الاقتصادي في عام 2008 السبب الوحيد وراء هذا الرقم المروع؛ فالعديد من الخيارات السياسية والخططية البعيدة الأمد مسؤولة أيضا. وعلى المستوى العالمي، ولكن بالنسبة للاقتصادات السريعة النمو بشكل خاص، كان الدرس بسيطا: ضرورة تجنب نموذج الرعاية الصحية الخاصة المتبع في أميركا.

إن الولايات المتحدة واحدة من الدول المرتفعة الدخل القليلة التي لا تمول الرعاية الصحية من خلال نظام الدفع المسبق الممول حكوميا. ففي المتوسط، تنفق الدول الأكثر ثراءً نحو 11% من ناتجها المحلي الإجمالي على الصحة، حيث تتولى الحكومة تمويل أكثر من 80% من الرعاية الصحية في حين لا تزيد الشريحة التي تدفع رسوماً في مقابل الخدمة عن 14%. ويتحمل التمويل العام (أو في بعض الحالات صناديق التأمين التعاوني التي تتولى الحكومة تنظيمها) أغلب تكاليف الخدمات الطبية التقديرية، في حين يعمل التأمين الخاص كمكمل فقط للخدمات الإضافية في أضيق الحدود.

إن أغلب الدول الغنية تختار التمويل العام للرعاية الصحية لعدة أسباب. الأول أن الرعاية الصحية القائمة على السوق الحرة تتسم عادة بالافتقار إلى العدالة والكفاءة. ذلك أن الاحتياجات الفردية تتباين إلى حد كبير، والشركات الخاصة غالباً ما تكون غير راغبة في تأمين الأشخاص الأكثر احتياجاً إلى الرعاية (مثل أولئك الذين هم مرضى بالفعل، أو هؤلاء الذين يعانون من حالات مثل مرض السكري، والتي تجعلهم معرضين لمشاكل صحية أخرى). فضلاً عن ذلك فإن هؤلاء الذين يدفعون في مقابل الحصول على الرعاية الصحية ــ شركات التأمين والمرضى ــ من غير المرجح أن يحصلوا على المعلومات اللازمة لاختيار العلاجات الأكثر أماناً وفعالية.

ومن ناحية أخرى، يعمل الإنفاق العام عمل المكابح على الإنفاق الإجمالي، ويمنع تصاعد التكاليف السريع الذي تساهم فيه شركات التأمين الخاصة في أميركا. فالولايات المتحدة تنفق 1% من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً ببساطة من أجل إدارة نظام التأمين المعقد وغير العملي لديها. وفي غياب الإصلاح من النوع المطروح الآن أمام المحكمة العليا، فإن إجمالي الإنفاق الصحي سوف يرتفع من 16% من الناتج المحلي الإجمالي اليوم إلى 25% بحلول عام 2025.

الواقع أن التأثيرات الاقتصادية المترتبة على النظام الحالي كانت شديدة بالفعل. فقد أظهر آخر تعداد رسمي للسكان في الولايات المتحدة زيادة ملحوظة في عدد الأميركيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وترتبط هذه الحقيقة ارتباطاً وثيقاً بالافتقار إلى التأمين الصحي، والذي يعكس بدوره الاعتماد المفرط على التغطية التأمينية التي يتولاها أصحاب العمل.

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible
PS_Quarterly_Q3-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: The Climate Crucible, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

يتعين على الحكومات في اقتصادات الأسواق الناشئة أن تضع في اعتبارها خمسة اعتبارات عند وضع أنظمة الرعاية الصحية. الأول أن الاستثمارات في مجال الصحة توفر شبكة أمان مهمة ضد الفقر، وخاصة في أوقات الاضطرابات الاقتصادية. على سبيل المثال، في كل عام ينزلق نحو 37 مليون مواطن هندي غير مؤمن عليه إلى ما دون خط الفقر بسبب النفقات الصحية المأساوية (والتي تتجاوز عموماً 10% من مجموع إنفاق الأسر هناك).

وثانيا، يعطي التمويل العام للصحة للفقراء الفرصة لاستخدام أموالهم لتلبية احتياجات أخرى. ففي الدول ذات الدخل المنخفض، يتحمل المواطنون نصف تكاليف الإنفاق على الرعاية الصحية (نحو 2,5% من الناتج المحلي الإجمالي) من جيوبهم الخاصة (مقارنة بنحو 2% في الدول ذات الدخل المتوسط). وهذا الإنفاق يستهلك نسبة كبيرة من دخل الأسر الأكثر فقرا، ويحول دون الاستثمار الأسري الأكثر إنتاجية، ويخلق عدداً قليلاً من فرص العمل، ويظل غير خاضع للضريبة غالباً لأن الأطباء والمستشفيات يتقاضون مقابلاً بشكل غير رسمي.

وثالثا، من الممكن أن يعمل التمويل العام للصحة على زيادة معدلات تشغيل العمالة الإجمالية. ففي كندا عملت الأقاليم على إدخال نظام التأمين الصحي الوطني على مراحل أثناء الفترة 1961-1975. وكانت معدلات تشغيل العمالة والأجور ترتفع حيثما تم تفعيل البرنامج، رغم أن متوسط ساعات العمل لم يتغير. وفي المقابل، كانت معدلات تشغيل العمالة ونمو الأجور أبطأ في الأقاليم ذات المستويات المرتفعة من التغطية التأمينية الخاصة. ومؤخراً تمكنت كندا من التغلب على الولايات المتحدة في الحصول على عقد إنشاء مصنع جديد لشركة تويوتا، ويرجع هذا جزئياً إلى حقيقة مفادها أن تكاليف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة تضيف عِدة آلاف من الدولارات إلى تكاليف تصنيع السيارة هناك.

ورابعا، من الممكن أن تعمل أنظمة الرعاية الصحية الوطنية القائمة في الدول الأكثر ثراءً كنماذج لاقتصادات الأسواق الناشئة التي تختار تبني أنظمة مماثلة. ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن التمويل العام لا يعني تقديم الرعاية من جانب الحكومة فقط؛ فبوسع المستشفيات والعيادات الخاصة أن تعمل أحياناً على تقديم الخدمات بقدر أعظم من الفعالية. فقد أنشأت تايوان في عام 1995 نظام الدافع المنفرد، فنجحت إلى حد كبير في الحد من تكاليف الرعاية الصحية وتحسين نوعية حياة السكان. وفي المكسيك، تم تطبيق نظام الرعاية الصحية الشاملة الجديد في المناطق الأكثر فقراً من البلاد أولا.

ومن ناحية أخرى، تقدم الصين مثالاً واقعياً للعواقب المترتبة على سحب التأمين الصحي الممول من قِبَل الحكومة. ففي أوائل ثمانينيات القرن العشرين، تسببت إصلاحات السوق بين عشية وضحاها تقريباً في حرمان نحو 100 مليون مواطن ريفي من التأمين. وارتفعت تكاليف الإنفاق الخاص على الرعاية الصحية إلى عنان السماء، وتوقفت معدلات الوفيات بين الرضع عن الانخفاض، وأصاب الضعف نظام مراقبة الأمراض، وهو الأمر الذي ربما ساهم في انتشار وباء السارس أثناء الفترة 2002-2003، الذي حصد أرواح أكثر من 900 شخص على مستوى العالم وتسبب في خسائر اقتصادية تقدر قيمتها بنحو 60 مليار دولار. ولقد اعترفت الحكومة الصينية بأن الإصلاحات كانت متخبطة، والتزمت بإنفاق عِدة مليارات من الدولارات على الرعاية الصحية الممولة من قِبَل الحكومة.

وأخيرا، ينبغي للحكومات، وفقاً لمبدأ "التغطية للجميع، ولكن ليس لكل شيء"، أن تقرر أي الخدمات أكثر فعالية من حيث التكاليف، وأيها لا ينبغي له أن يمول من قِبَل الحكومة لأنها مكلفة وغير فعالة. ومن الممكن أن تنمو قائمة الخدمات الخاضعة للتأمين دوماً بما يتماشى مع الدخول والعائدات الحكومية. وبشكل خاص، تعود الضرائب الأعلى على التبغ بفائدة مزدوجة؛ فهي تؤدي إلى الحد من التدخين، السبب الرئيسي للوفاة بين البالغين، وترفع العائدات.

ولقد التزمت كل من الصين والهند وجنوب أفريقيا بتبني التأمين الصحي الوطني. ولن يعتمد تحديد الدولة التي سوف تتمكن من إنجاز هذه الغاية أولاً على العائدات فقط، بل وأيضاً على الإرادة السياسية اللازمة للتغلب على أصحاب المصالح الخاصة. وسوف يعتمد الأمر أيضاً على قدرة المؤسسات على تصميم نظام رشيد للرعاية الصحية، ومراقبة تقديم الخدمات، والتقييم السليم للعلاجات الجديدة.

إن تكاليف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة باهظة، مع انخفاض العائد في مقابل المال المنفق. ولا يسعنا إلا أن نتمنى أن ينجح نظام "أوباما كير"، إلى جانب النماذج التي يجري تنفيذها من قِبَل منافسي الولايات المتحدة في المستقبل، في دفع الولايات المتحدة إلى تبني نظام رعاية صحية شامل وممول من قِبَل الحكومة.

https://prosyn.org/uiECNmVar