turner34_The Washington Post_Getty Images_bills The Washington Post/Getty Images

تبديد الغموض الذي يكتنف التمويل النقدي

لندن ــ بعد مرور ثماني سنوات منذ اندلعت أزمة 2008، فشلت الحكومات والبنوك المركزية ــ برغم وفرة من السياسات وأساليب التعامل المختلفة ــ في تحفيز القدر الكافي من الطلب لإنتاج النمو المستدام القوي. في اليابان، وَعَد اقتصاد آبي المزعوم برفع التضخم إلى 2% بحلول عام 2015؛ ولكن بدلا من ذلك، يتوقع بنك اليابان أن يكون التضخم أقرب إلى الصِفر في عام 2016، مع نمو الناتج المحلي الإجمالي بما لا يتجاوز 1%. وانخفض النمو في منطقة اليورو إلى النصف في الربع الثاني من عام 2016، وهو يعتمد بشكل خطير على الطلب الخارجي على الصادرات. وحتى التعافي في الولايات المتحدة يبدو فاترا.

ونتيجة لهذا، انتشرت على نطاق أوسع المناقشات الدائرة حول "أموال الهليوكوبتر" ــ الحقن المباشر للسيولة النقدية إلى أيدي المستهلكين، أو التسييل الدائم للديون الحكومية. ومن حيث المبدأ، كانت الحجة لصالح هذا التمويل النقدي واضحة.

فإذا خفضت الحكومة الضرائب، أو زادت من الإنفاق العام، أو وزعت الأموال النقدية بشكل مباشر على الأسر، وإذا أنشأ البنك المركزي أموالا جديدة دائمة لتمويل هذا التحفيز، فسوف تزداد ثروة المواطنين الاسمية؛ وعلى النقيض من العجز الممول بالاستدانة، فلن يواجهوا زيادة الضرائب في المستقبل لسداد الدين الذي بات مستحقا نيابة عنهم. ومن المحتم أن تحدث بعض الزيادة في الطلب الاسمي الكلي، مع تناسب درجة التحفيز على نطاق واسع مع كم الأموال النقدية المنشأة حديثا.

ولكن المناقشة حول التمويل النقدي ترزح تحت وطأة مخاوف عميقة والتباسات غير ضرورية. فيخشى بعض المراقبين أن تنتج أموال الهليوكوبتر التضخم  المفرط حتما؛ في حين يزعم آخرون أنها لن تكون أكثر فعالية من السياسات الحالية في زيادة الطلب والتضخم. ومن غير الممكن أن يكون كلا الفريقين على صواب.

تنبع إحدى الحجج التي تزعم أنها قد تكون غير فعّالة من شبح فرض "ضريبة التضخم" في المستقبل. ففي أي اقتصاد حيث التشغيل الكامل للعمالة والناتج المحتمل الكامل، قد يعمل التحفيز الممول نقدا على إنتاج نمو أسرع في الأسعار فحسب، لأن أي زيادة في الناتج الحقيقي لن تكون ممكنة. وأي زيادة في صافي القيمة الاسمية للقطاع الخاص سوف يعوض عنها التضخم في المستقبل.

كل هذا صحيح بوضوح ــ وغير ذي صِلة. فكما أزعم في ورقة بحثية حديثة أكثر توسعا، من غير الممكن أن تنشأ "ضريبة التضخم" في غياب زيادة التضخم، والتي لن تحدث إلا إذا حدثت زيادة في الطلب الاسمي. والواقع أن الفكرة القائلة بأن "ضريبة التضخم" في المستقبل من الممكن أن تعيق قدرة الموارد المالية النقدية على تحفيز  الطلب الاسمي لا تعدو كونها سخفا منطقيا.

SPRING SALE: Save 40% on all new Digital or Digital Plus subscriptions
PS_Sales_Spring_1333x1000_V1

SPRING SALE: Save 40% on all new Digital or Digital Plus subscriptions

Subscribe now to gain greater access to Project Syndicate – including every commentary and our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – starting at just $49.99.

Subscribe Now

وتفترض الأحاديث التي تتناول الكيفية التي تعمل بها أموال الهليوكوبتر غالبا أننا نعيش في عالم بسيط حيث تنشأ كل الأموال بواسطة السلطة النقدية. ولكن في العالَم الحقيقي تستطيع البنوك التجارية أن تخلق نقودا دفترية خاصة جديدة، وأن تحتفظ بجزء صغير فقط من هذه الودائع كاحتياطي لدى البنك المركزي. وفي هذا العالَم يصبح إنشاء شكل آخر من أشكال الضرائب أمرا وثيق الصِلة.

ولمعرفة السبب، من المهم أن نلاحظ أن التمويل النقدي لا يختلف اختلافا جذريا عن التمويل بالاستدانة إلا إذا كانت الأموال التي ينشئها البنك المركزي بدون فائدة بشكل دائم. وبالتالي فإن التمويل النقدي الفعّال يتطلب قيام البنوك المركزية بفرض متطلبات الاحتياطي الإلزامية بدون فائدة.

والقيام بهذا يتوافق تماما مع رفع أسعار الفائدة عندما يقتضي الأمر، لأن البنك المركزي من الممكن أن يدفع فائدة قيمتها صفر على الاحتياطيات الإلزامية، في حين يدفع الفائدة الرسمية على الاحتياطيات الإضافية. ولكن إذا اضطرت البنوك التجارية إلى الاحتفاظ باحتياطيات لا تولد عوائد حتى عندما ترتفع أسعار الفائدة في السوق عن الصِفر، فإن هذا يفرض ضريبة على الوساطة الائتمانية للبنوك ــ وهي الضريبة التي تعادل حسابيا أعباء ضريبة المستقبل التي قد تنتج عن التحفيز الممول بالاستدانة. وتزعم دراسة حديثة من إعداد كلاوديو بوريو، وبيتي ديسياتات، وأنّا زاباي أن التمويل النقدي نتيجة لهذا من غير الممكن أن يصبح أكثر تحفيزا من التمويل بالاستدانة.

ولكن برغم وضوح الحسابات الرياضية، فإن النتيجة لا تتفق معها. فضريبة المستقبل من غير الممكن أن تنشأ إلا إذا ارتفعت أسعار الفائدة ومعدل التضخم، وعندما تنشئ البنوك ائتمانا وأموالا دفترية جديدة، والذي من شأنه أن يؤدي إلى مضاعفة التأثير التحفيزي الناتج عن خفض الضرائب أو الإنفاق الأولي الممول نقدا. وهناك ضريبة في المستقبل بلا شك، ولكنها ضريبة يتعين على البنك المركزي أن يفرضها لضمان عدم تجاوز التحفيز الهدف المقصود في الأصل.

وعلى هذا فإن الحجج التي تزعم أن التمويل النقدي لن يكون فعّالا غير مقنِعة. فإذا كانت صحيحة، فإنها تعني منطقيا أن أي مبلغ من التمويل النقدي، مهما كان كبيرا، لن يحفز الطلب الاسمي أبدا. ولكن ينبئنا الحس السليم والتاريخ بأن التضخم المفرط ينشأ حتما إذا عملت الحكومات والبنوك المركزية على خلق وإنفاق المال على نطاق واسع. والواقع أن الخطر الوحيد الذي تفرضه أموال الهليوكوبتر ليس ضعف التأثير، بل جسامة التأثير.

هناك سؤالان ينبغي لهما أن يحددا ما إذا كان التمويل النقدي خيارا سياسيا مرغوبا. الأول هو ما إذا كنا في احتياج إلى المزيد من الطلب الاسمي. يتمثل الإجماع العالمي القوي في أيامنا هذه في احتياجنا إلى هذا. ومن الممكن أن نختلف مع هذا الإجماع بزعم أن التضخم عند مستوى الصِفر أفضل من مستوى 2%، وأن النمو كاسد ليس بسبب نقص الطلب الاسمي بل بفِعل عوامل ترتبط بجانب العرض. ولكن إذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي لنا أن نسعى إلى تحفيز الطلب الاسمي بأي شكل كان؛ وينبغي لنا أن نرفض ليس فقط التمويل النقدي بل وأيضا أسعار الفائدة السلبية، والتيسير الكمي، والتحفيز المالي الممول بالاستدامة. وإذا كان نقص الطب الاسمي يمثل مشكلة ــ مع كون زيادة التضخم أمرا مرغوبا وإمكانية النمو الحقيقي الأسرع ــ فإن التمويل النقدي لابد أن يكون أحد الخيارات.

بيد أنه قد لا يكون خيارا مرغوبا إذا كانت المخاطر السياسية المترتبة على التمويل النقدي ــ وهذا هو السؤال الثاني ــ أعظم مما ينبغي. ذلك أن الحجة الجادة ضد التمويل النقدي لا تكمن في الجوانب الفنية من الضرائب الضمنية في  المستقبل، بل في خطر استسلام الساسة لإغراء السحب مرارا وتكرارا من بئر التمويل النقدي إذا كسرنا المحظور وتعاملنا مع التمويل النقدي باعتباره خيارا مقبولا.

الحق أن الخوف من هذه النتيجة عظيم إلى الحد الذي يجعله يبدو وكأنه يحفز بعض خبراء الاقتصاد للبحث عن الأسباب الفنية وراء عدم فعالية التمويل النقدي. ولكن هذه الممارسة غير المقنعة تعمل ببساطة على صرف الانتباه عن السؤال الحاسم: هل يمكننا تصميم القواعد والمسؤوليات المؤسسية التي تضمن استخدام التمويل النقدي بحصافة وحِكمة؟ إذا لم يكن هذا في إمكاننا، فربما يعني ذلك أننا أصبحنا عالقين مع أدوات غير فعّالة وأداء اقتصادي مخيب للآمال لسنوات عديدة قادمة.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

https://prosyn.org/fkEyzcOar