spence178_NurPhotoGettyImages_china_deflation_supermarket1 NurPhoto/Getty Images

الصين قادرة على صد الانكماش

ميلانوــ منذ اندلعت جائحة كوفيد-19، كانت الصين تشهد حالة غير مألوفة: الظروف الانكماشية. عند هذه المرحلة من التنمية الاقتصادية في الصين، ربما يتراوح نمو الناتج المحلي الإجمالي المحتمل في نطاق 5% إلى 6%. ولكن، نسبة إلى القدرة الإنتاجية، نجد أن الطلب الكلي أدنى كثيرا من أن يحقق هذه الإمكانية.

ليس من الصعب تحديد العوامل التي ربما أضعفت الطلب الخارجي. فقد فرضت الاقتصادات المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة، تعريفات جمركية عالية على السلع الصينية وفرضت قيودا على تصدير بعض التكنولوجيات المتقدمة إلى الصين. من ناحية أخرى، تتنامى احتكاكات تجارية أعرض نطاقا، مدفوعة جزئيا بالعقوبات المفروضة ردا على غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022. وتُـنـذِر إعادة انتخاب الرئيس السابق دونالد ترمب في الأرجح بمزيد من القيود التجارية وغيرها من القيود، وخطوة أخرى نحو النزعة القومية، والأحادية، وتفتت النظام العالمي. ولا يشكل هذا بالضرورة تغييرا جذريا في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وإن كان فرض الرسوم الجمركية بنسبة 100% سيكون كذلك. بيد أن إعادة تجميع نسخة من النظام المتعدد الأطراف تبدو احتمالا أقل ترجيحا بدرجة كبيرة في الأمد القريب.

لكن الصين، مع هذا، بَـلَـغَـت مرحلة من التنمية حيث بات من اللازم أن يشكل الطلب المحلي، وليس الخارجي ــ وخاصة في قطاعات الخدمات غير القابلة للتداول ــ القسم الأعظم من الطلب الكلي. فمع ارتفاع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي إلى 13 ألف دولار، أصبحت الصين بين اقتصادات الدخل المتوسط الأعلى وتقترب من وضع الدخل المرتفع. وعلى هذا فإن الجزء غير القابل للتداول من اقتصادها يجب أن يقترب من الحجم الذي نراه في البلدان المرتفعة الدخل: ثلثي الناتج المحلي الإجمالي.

وهذا يعني أن حتى الطلب البالغ القوة على الصادرات الصينية، أو الطلب القوي على السلع القابلة للتداول في عموم الأمر، من غير الممكن أن يعوض عن عجز كبير في الطلب غير القابل للتداول. وتعكس الحواجز التي تحول دون النمو الصيني في المقام الأول ضعف الطلب المحلي الكلي، والذي يرجع إلى حد كبير إلى النقص في استهلاك الأسر.

فقد عملت معدلات البطالة المرتفعة نسبيا، مقترنة بانعدام اليقين بشأن آفاق الاقتصاد، على تشجيع الأسر الصينية ــ التي تعد بالفعل بين كبار المدخرين وفقا للمعايير العالمية ــ على مضاعفة الادخار الاحترازي. الأمر الأكثر أهمية هو أن انخفاض قيمة العقارات، التي تمثل ما يقدر بنحو 70% من ثروة الأسر الصينية، يخلف تأثيرات سلبية كبيرة على الاستهلاك. وكما تعلمت الولايات المتحدة بعد أزمة الرهن العقاري الثانوي في الفترة 2007-2010، فإن إصلاح الضرر الذي يلحق بالميزانية العمومية في قطاع الأسر ليس بالمهمة السهلة، وهي أيضا ليست مهمة يمكن تحقيقها بسرعة.

كما أثر ضعف النشاط العقاري على مالية الحكومات المحلية، التي اعتمدت بشدة لفترة طويلة على مبيعات الأراضي والعائدات العقارية. وتؤدي الضائقة المالية المتصاعدة بين الحكومات المحلية إلى تفاقم الضغوط الانكماشية.

Secure your copy of PS Quarterly: The Year Ahead 2025
PS_YA25-Onsite_1333x1000

Secure your copy of PS Quarterly: The Year Ahead 2025

Our annual flagship magazine, PS Quarterly: The Year Ahead 2025, has arrived. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Digital Plus now.

Subscribe Now

يتمثل سبب ثان وراء نقص الطلب المحلي في الصين في انخفاض الاستثمار في قطاع الشركات الخاصة. ويشكل ضعف الطلب المحلي على السلع والخدمات النهائية عاملا أساسيا في هذا الصدد؛ ويُـعَـد تراجع الثقة، الذي تمتد جذوره إلى الافتقار إلى الوضوح بشأن العلاقة بين القطاع الخاص وقطاع الشركات الكبيرة المملوكة للدولة، عاملا آخر. كما انخفض الاستثمار المباشر الأجنبي الوارد، بسبب القيود التجارية والاستثمارية والتوترات الجيوسياسية، وإن كان التأثير على اقتصاد الصين أقل أهمية.

في الماضي، كان الاستثمار العام محركا رئيسيا للطلب الكلي الصيني. وخلال العقود الثلاثة من النمو البالغ السرعة في الصين، وص تكوين رأس المال الإجمالي ــ ومعظمه كان موجها من قِبَل الحكومة ــ إلى ما يقرب من 40% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن الحكومات المحلية المتأزمة ماليا أصبحت المساحة المتاحة لها لملاحقة أشكال الاستثمارات الضخمة التي شهدناها في الماضي أقل كثيرا، ولن يخلف تعافي الاستثمار سوى تأثير محدود على النمو في المستقبل. ولن يكون الإفراط في الاستثمار لمجرد سد الفجوة في الطلب الكلي تصرفا حكيما، كما يدرك صناع السياسات الصينيون تمام الإدراك.

قد تكون الظروف الانكماشية اليوم غير مألوفة في الصين، لكنها ليست مفاجئة تماما. إن الانتقال من نموذج النمو القائم على التصدير والاستثمار إلى نموذج قائم على الاستهلاك المحلي والإبداع يعادل تحولا بنيويا جوهريا. الأمر الأكثر إدهاشا هو أن تكون كل مكونات هذا التحول متزامنة تماما.

في كل الأحوال، الاستجابة السياسية جارية بالفعل. فبادئ ذي بدء، تلاحق الحكومة مجموعة من التدابير الرامية إلى تثبيت استقرار قطاع العقارات دون تغذية فقاعة جديدة. على سبيل المثال، تعتزم الصين مضاعفة خطوط الائتمان تقريبا لمشاريع الإسكان غير المكتملة، من أجل تمكين استكمالها وحماية الأسر التي اشترت وحدات سكنية مسبقا من خسارة استثماراتها بالكامل. ولأن القدرة الفائضة لا يمكن عكسها، فإن الخيار الأفضل هو الإسراع إلى شطبها.

من ناحية أخرى، كانت الحكومة الصينية تعمل على توضيح أدوار القطاعين الخاص والمملوك للدولة. وبمرور الوقت، ينبغي لهذا أن يعمل على استعادة الثقة وتحفيز الاستثمار في القطاع الخاص (شريطة أن تظل الرسائل متسقة). كما ستساعد الجهود الأخيرة لتشجيع القطاعين العام والخاص على تبني عقلية أكثر ميلا إلى ريادة الأعمال في تنشيط أجزاء من الاقتصاد والبيروقراطية التي تعوقها المخاوف من ارتكاب الأخطاء.

لا ينبغي للتقييم الشامل لآفاق الصين الاقتصادية أن يركز فقط على نقاط ضعفها. إذ يتمتع الاقتصاد بمواطن قوة مهمة عديدة، وخاصة المواهب الوفيرة في المجالات العلمية، والتكنولوجية، وريادة الأعمال. وقد ساهم هذا بالفعل في تقدم الصين ــ وفي بعض الحالات تمكينها من الزعامة ــ في عدد من التكنولوجيات المتقدمة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والمركبات الكهربائية، والبطاريات، والطاقة الشمسية، وبعض مجالات العلوم الطبية الحيوية وعلوم الحياة. وسوف يجلب فوائد أعظم بمجرد معالجة اختلالات التوازن الحالية.

تتمتع الصين بميزة مهمة أخرى. تفشل اقتصادات نامية عديدة في تحقيق كامل إمكانات نموها، لأن السياسات الحكومية لا تدعم ــ وفي بعض الحالات تقاوم بنشاط ــ التغيير البنيوي. لكن الصين لا تعاني من هذه المشكلة. ذلك أن حكومتها تدرك أهمية التحول البنيوي القائم على التكنولوجيا، وتبتكر السياسات (وتوجه الاستثمار) وفقا لذلك.

بهذا المعنى، من الأنباء السارة أن الرياح المعاكسة للنمو التي تواجهها الصين اليوم ليست في المقام الأول نتيجة لبيئة خارجية أكثر عدائية (وإن كان هذا لا يساعد). بل تأتي هذه الرياح إلى حد كبير من اختلالات توازن داخلية وانعدام اليقين الناجم عن السياسات ــ وهي مشكلات تمتلك الحكومة الصينية المهارة والقدرة اللازمة لمعالجتها. على سبيل المثال، من الممكن أن يساعد التحفيز المالي الذي يركز على دعم الاستهلاك في تسهيل عملية استعادة التوازن ومنع دوامة هبوطية ذاتية التعزيز.

الواقع أن التحديات التي تواجهها الصين مُـنـهِـكة، لكنها ليست مستعصية على الحل. وبالاستعانة بنهج سياسي واضح وجيد التوجيه، يصبح من الممكن استعادة زخم النمو في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام.

ترجمة: مايسة كامل        Translated by: Maysa Kamel

https://prosyn.org/7VI2xQHar