zaman9_Getty Images Getty Images

دروس من الجائحة في مكافحة الأمراض الـمُـقـاوِمة للعقاقير

بوسطن ــ بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الجائحة، تبدو هناك وفرة في التساؤلات التي يمكن طرحها من قبيل "ماذا لو". من هذا على سبيل المثال: ماذا لو كنا بدأنا التعامل مع الأزمة بالمراقبة وتبادل المعلومات على نحو أفضل؟ ماذا لو تحركت الحكومات والأجهزة الصحية الدولية بصورة مختلفة؟ لا شك أننا لن نستطيع العودة بالزمن إلى الوراء، لكننا نستطيع، بل يتحتم علينا، أن ننظر في الدروس المستفادة، حتى نستطيع تطبيقها على التحدي الصحي الأكبر التالي الذي يواجه العالم وهو: مقاومة مضادات الميكروبات.

تعلن المستشفيات حول العالم عن المزيد والمزيد من حالات العدوى المقاومة للعقاقير، ونحن بصدد الوصول للنقطة التي لن نصبح فيها قادرين على السيطرة على الزيادة المطردة في الحالات. لقد أوجد الاستخدام واسع الانتشار وغير الضروري للمضادات الحيوية في الإنتاج الحيواني بيئة حاضنة ضخمة للجراثيم المقاومة لمضادات الميكروبات، فيما توقفت شركات الأدوية الكبرى عن البحث عن علاجات جديدة لمكافحة مقاومة العقاقير. وحتى تكتمل عناصر الكارثة، شجع غياب القوانين المنظمة في غالبية الدول الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية في مرافق تقديم الرعاية الصحية.

تبدو المشكلة أكثر حدة في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وقد أظهر لنا مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) التباين الشديد في تأثيرات أزمات الصحة العامة عبر الفئات الاجتماعية الاقتصادية المختلفة، سواء داخل البلد الواحد أو بين الدول. فقد تحملت المجتمعات المهمشة والمحرومة من نيويورك حتى نيودلهي العبء الأكبر في تلك الجائحة وما أحدثته من تداعيات اقتصادية، وهي ذاتها التي ستعاني على نحو غير متكافئ من مقاومة مضادات الميكروبات أيضا.

فضلا عن ذلك، يُرجح أن تظهر مقاومة مضادات الميكروبات في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط بسبب عدم وجود قوانين قوية تجرم صرف العلاج بدون وصفة طبية، وارتفاع عبء الأمراض المعدية في تلك الدول، ورداءة نوعية العقاقير والأدوية، والاستخدام غير المنظم للمضادات الحيوية في الحيوانات، وعدم كفاية نظم إدارة مياه الصرف والمخلفات السائلة. وحتى قبل اندلاع جائحة كوفيد-19، كانت فاشيات حمى التيفوئيد المقاومة للعقاقير شائعة في جنوب آسيا وشرقها وأميركا الجنوبية. بل أضحى لدينا الآن دليل على زيادة استخدام المضادات الحيوية في تلك الدول بصورة أكبر خلال المرحلة الأولى من جائحة كورونا.

ولكي نمنع ظهور مقاومة مضادات الميكروبات، يتحتم علينا زيادة الوعي بمدى التهديد الذي تشكله. ومن إحدى أقوى الأدوات الصحية التي نمتلكها في هذا الصدد: الوعي العام بشأن ما تفعله وما لا تفعله المضادات الحيوية ومتى ينبغي استخدامها ومتى ينبغي تجنبها. هنا نجد أن أزمة كوفيد-19 خلقت فرصة فريدة لوزراء الصحة وخبراء الصحة العامة والأطباء المحليين للانخراط بشكل أقرب وأوثق مع عموم الناس. واحتلت العلوم والصحة العامة مركز الصدارة للمرة الأولى في غالبية الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، فأصبح المتخصصون في المجال الصحي ضيوفا معتادين في مقابلات وسائل الإعلام الإخبارية، بينما صار هناك جمهور متنام شغوف بسماع نصائحهم.

يجب على مجتمع الصحة العامة الدولي أن يستفيد من التمويل المتدفق حاليا في مجال الرعاية الصحية من خلال الأسواق ومن حزم الإنفاق الحكومية. لقد أوجدت الجائحة شهية جديدة للاستثمار في المناحي الصحية المتعلقة بالبنية التحتية، والإصلاحات البنيوية، وتقوية اللوائح. على سبيل المثال، مُدّت مظلة برنامج إحساس لشبكة الأمان الاجتماعي في باكستان (وهو برنامج يقدم أيضا خدمات صحية) حتى صارت تغطي 45% من السكان بنهاية عام 2020، كما أضحى برنامج التحسين الاجتماعي في الفلبين يغطي 78% من سكان الدولة.

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

ربما جفت مثل تلك الاستثمارات بعد الجائحة، لذا فإن اللحظة الآن مواتية لمناصري قضية الصحة العامة كي يضغطوا للدفع بهذه القضية نحو التحرك لمواجهة مقاومة مضادات الميكروبات. على أية حال، أبرزت جائحة كوفيد-19 الحاجة إلى نظم أقوى للمراقبة والاستجابة للجائحة. فقد لاحظنا في كوريا الجنوبية والدول الأخرى التي أتاحت بالفعل الاختبارات التشخيصية للفيروس بتكلفة ميسورة، أن السيطرة على الفيروس كانت أسهل مقارنة بالدول التي لم تستثمر في تلك الأصول. وينطبق الأمر عينه على مقاومة مضادات الميكروبات.

ولا يقل عن ذلك أهمية تبادل البيانات. وبما أن منظمة الصحة العالمية قد أنشأت بالفعل قاعدة بيانات للبحوث الجارية الخاصة بجائحة كوفيد-19، فينبغي أن ننظر في إمكانية استخدام المنصات المشابهة لجمع البيانات واستكشاف مقاومة مضادات الميكروبات في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وبمجرد تطويع البنية التحتية القائمة لتخدم أغراضا أخرى، سيكون بمقدور سلطات الصحة العامة قطع شوط طويل نحو الاستعداد لتفشي أي مرض مقاوم للعقاقير.

ينبغي أيضا أن تدفعنا أزمة كوفيد-19 لإعادة تقييم نظمنا الغذائية، فيجب أن نؤسس أطر عمل تنظيمية أقوى تضع في الحسبان المبادئ الأساسية للصحة العامة، بدلا من اهتمامات المؤسسة الربحية. لقد ضمنت الثغرات التي تسمح بالاستخدام غير المقيد للمضادات الحيوية في الإنتاج الحيواني استمرار تفشي تلك الممارسة الخطرة. وهناك بالفعل أدلة على ظهور بكتيريا مقاومة للعقاقير إلى حد كبير في مزارع حيوانية بالصين والهند، ولا شك أن تلك الدولتين ليستا استثناء.

كان من الدروس التي تعلمناها من تجربة كوفيد-19 أن الأمر ليس إلا مسألة وقت (أيام أو أسابيع أو أشهر على الأكثر) قبل أن تنتشر عدوى جديدة من منطقة إلى أخرى. وقد صارت لدينا بالفعل البيانات اللازمة لوضع السياسات الملائمة التي يمكن أن يتوافق عليها (أصحاب) المشاريع والشركات الزراعية ومناصرو قضية الصحة العامة. وبما أن أزمة كوفيد-19 زادت من تقديرنا للمخاطر التي يمكن أن تشكلها مقاومة مضادات الميكروبات، ينبغي لنا أن نكون جادين في تبني أطر عمل تنظيمية جديدة.

يوفر التطوير السريع للقاحات كوفيد-19 بواعث لتجدد الأمل ودوافع للاستثمار. ولقد قامت لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA)، رغم حداثتها، على عقود من البحث العلمي، وهو ما يمكن استخدامه أيضا لتطوير مضادات حيوية أو علاجات جديدة للفيروسات البكتيرية. لكننا نريد مجموعة أوضح من الحوافز الاقتصادية ونماذج أكثر فعالية لبناء شراكات بين الأجهزة الحكومية والكليات العلمية والشركات الناشئة وشركات الأدوية. وبالإضافة إلى تطوير علاجات جديدة واعدة واختبارها بدقة، يجب أيضا أن نضمن إتاحتها وتوافرها للجميع على نطاق واسع.

أخيرا، يجب أن نقاوم النزعة القومية في مجال الصحة. فالانعزال، وسياسات "أنا أولًا" التجارية، وخطط الدفع مقابل الاستفادة بالخدمة ليست غير أخلاقية فحسب، لكنها تؤدي أيضا إلى نتائج عكسية، لأن البكتيريا والفيروسات لا تراعي الحدود القومية أو تُخضع نفسها للفحص الجمركي. إن الحصول على رعاية صحية عالية الجودة لهو حق إنساني أساسي يجب دعمه وترسيخه. وتتمثل أفضل طريقة للاستعداد للأزمة الصحية العالمية التالية في ملاحقة هدف التغطية الصحية الشاملة، اعترافا بحقيقة مفادها أننا نستفيد جميعا عندما يتمكن كل الناس من الوصول إلى الاختبارات والعلاجات واللقاحات.

ترجمة: أيمن أحمد السِّمِلّاوي    Translated by: Ayman A. Al-Semellawi

https://prosyn.org/mlNYOHJar