mazzucato68_Muhammet Ikbal ArslanAnadolu via Getty Images_worldhealthassembly Muhammet Ikbal Arslan/Anadolu via Getty Images

اقتصاديات الصحة للجميع

لندنــ أصبح العالم في احتياج عاجل إلى إطار عالمي جديد يؤكد على العدالة ويستفيد من دروس جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). ومع ذلك، مع انعقاد جمعية الصحة العالمية، يلوح فشل البلدان الأعضاء في الوفاء بالموعد النهائي للتوصل إلى اتفاق بشأن الجوائح كبيرا في الأفق. غير أن تَـجَـمُّـع هذا العام يقدم بعض أسباب التعلق بالأمل، لأن البلدان الأعضاء سوف تصوت على قرار بشأن "اقتصاديات الصحة للجميع"، والذي يستنير بعمق بعمل مجلس منظمة الصحة العالمية المعني باقتصاديات الصحة للجميع الذي كنت أتولى رئاسته.

إذا نال القرار الموافقة، فسوف تحصل منظمة الصحة العالمية على تفويض لبدء تنفيذ توصيات المجلس من خلال عملها مع البلدان الأعضاء. بتسليط الضوء على الروابط بين الصحة والاقتصاد، يحدد القرار خطوات بعينها تستطيع المنظمة والحكومات اتخاذها لترسيخ الصحة والرفاهة كأولوية شاملة في صنع السياسات. وقد وجه المجلس الدعوة إلى الحكومات في مختلف أنحاء العالم للاستثمار في الصحة للجميع وتنظيم الأنظمة الاقتصادية التي تقدر وتمول وتبتكر وتبني القدرات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.

إن تشكيل اقتصاداتنا بحيث تعكس هدف الصحة للجميع أمر بالغ الأهمية لمنع الجوائح في المستقبل، أو على الأقل الاستجابة لها بسرعة أكبر. لكن الأمر يتطلب المواءمة بين أهداف السياسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وفي حين أن وزراء الصحة هم الذين سيصوتون في هذه الجمعية، فلا ينبغي أن يُنظر إليهم على أنهم المسؤولون الوحيدون. يتطلب تحقيق هدف الصحة للجميع اتباع نهج يشمل الحكومة بأكملها، ويستلزم بشكل خاص اهتمام وزراء المالية والسياسة الاقتصادية.

يصدق هذا بشكل خاص على الحال اليوم. ويحث القرار البلدان الأعضاء على تأطير الإنفاق على الصحة على أنه استثمار طويل الأجل ــ وليس باعتباره تكلفة قصيرة الأجل. لكن التقشف عاد إلى عدد كبير من البلدان، وهذا يهدد ميزانيات الصحة التي ترزح بالفعل تحت الضغوط التي تفرضها تكاليف خدمة الديون والتضخم. هذه ليست مجرد نقطة تتعلق بالرسائل الموجهة. الواقع أن الاستثمارات في الصحة تعمل في حقيقة الأمر كمحركات للنمو في الأمد البعيد. إن مقياس الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي عبارة عن نسبة: فإذا ركزت الحكومات على خفض الديون (البسط) وتجنبت الاستثمارات التي من شأنها تعزيز النمو في المستقبل (المقام)، فإن النسبة لن تنخفض، بل ربما حتى ترتفع.

ما يدعو إلى التفاؤل أن السياسة الصناعية عادت إلى كونها السياسة المفضلة في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي يتيح للحكومات الفرصة لتوجيه استراتيجيات النمو نحو الصحة وغير ذلك من الأولويات الحرجة. وبدلا من التركيز على قطاعات أو تكنولوجيات مختارة، ينبغي لأي استراتيجية صناعية حديثة أن تركز على مهام اجتماعية وبيئية جريئة، والتي سوف تعمل بعد ذلك على تحفيز الاستثمار والإبداع والنمو عبر قطاعات الاقتصاد ذات الصلة.

وكما أكد المجلس الذي ترأسته، فإن الإبداع يعتمد على الذكاء الجمعي؛ فهو لا ينشأ بشكل عفوي من شركة واحدة فحسب. في مختلف أنحاء العالم، يستفيد الإبداع في مجال الصحة بشكل كبير من الاستثمار العام. كانت لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال ضد كوفيد-19 مدعومة بنحو 31.9 مليار دولار من الاستثمارات العامة الأمريكية، وهي تمثل مجرد مثال واحد من بين أمثلة كثيرة.

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible
PS_Quarterly_Q3-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: The Climate Crucible, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

ولكن ما لم يكن الإبداع محكوما على النحو الذي يحقق الصالح العام، فقد لا يتسنى تقاسم الفوائد على نطاق واسع. لضمان تقاسم المخاطر والمكافآت على النحو اللائق، سوف نحتاج إلى نهج جديد في إدارة التعاون بين القطاعين العام والخاص. وينبغي للحكومات أن تضع شروطا أقوى لأولئك الذين يسعون إلى الحصول على الدعم العام للإبداع في مجال الصحة، وخاصة من خلال اشتراط إتاحة المنتجات والخدمات الصحية الناتجة على نطاق واسع وبأسعار معقولة.

المشكلة هي أن الضغوط التي تمارسها صناعة الأدوية مستمرة في الحد من قوة هذه الشروط. ففي المفاوضات الجارية بشأن معاهدة الجوائح، على سبيل المثال، تمكنت المصالح الخاصة من عرقلة اتخاذ تدابير مهمة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية.

وكما زعمت سابقا، لا ينبغي هيكلة هذه الحقوق لحماية الأرباح الاحتكارية، أو كبح القدرة على الوصول إلى الإبداعات الصحية الحيوية ــ على سبيل المثال، من خلال منع الإنتاج في وقت الحاجة إليه وبأسعار معقولة، أو حجب المعرفة ونقل التكنولوجيا. في حالات الطوارئ الصحية مثل الجائحة، يعاني الجميع ــ وكل اقتصاد ــ في نهاية المطاف إذا لم يكن الوصول العادل إلى الاختبارات واللقاحات والمنتجات الصحية المنقذة للحياة أولوية قصوى. في حالة كوفيد-19، توفي ما يقدر بنحو 14 مليون شخص وخسر الاقتصاد العالمي نحو 14 تريليون دولار.

يسلط التفاوض على اتفاق بشأن الجوائح الضوء على ضرورة تصميم أدوات السياسة بطريقة موجهة نحو المهام: إذا كان الهدف هو منع التهديدات الصحية الكارثية، فلابد أن يتمحور الاتفاق حول هذا الهدف. وهذا يعني التأكيد على العدالة. ينطبق هذا أيضا على تصميم التمويل العالمي. تحتاج البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى حيز مالي لتنفيذ استثمارات بالغة الأهمية في مجال الصحة. وتشير اتفاقية الجوائح إلى حد ما إلى أهمية تدابير تخفيف الديون، لكن الأمر يتطلب التزاما أقوى كثيرا ــ بما يتماشى مع مطالب مبادرة بريدجتاون، التي قادتها رئيسة وزراء بربادوس ميا موتلي ــ لإصلاح بنوك التنمية المتعددة الأطراف وضمان تمكين البلدان من الوصول ليس فقط إلى الكم المناسب من التمويل، بل وأيضا الجودة المناسبة، وأن الديون غير المستدامة لن تعوقها عن تنفيذ استثمارات حرجة وطويلة الأجل في مجالات الصحة والمناخ والأولويات الاقتصادية.

ربما تكون الجائحة في تراجع، لكن العالم لا يزال يواجه أزمات متعددة ومترابطة تتعلق بالصحة والمناخ واتساع فجوة التفاوت داخل البلدان وبينها. ونحن نفشل فضلا عن ذلك، في الانتباه إلى دروس السنوات الأربع الأخيرة. يؤكد تغير المناخ أن الفاشيات الـمَـرَضية ستصبح أكثر تواترا، ومع ذلك، يظل التمويل المخصص للتأهب والاستجابة للجوائح غير كاف.

بدلا من ملاحقة النمو الاقتصادي بصرف النظر عن العواقب، يتعين علينا أن نوجه النشاط الاقتصادي نحو أهداف صحة الإنسان ورفاهته، ونحو ضمان بيئة صحية ومستدامة. يتعين علينا أن نهرب من الـفِـكر الاقتصادي المعيب بشدة والذي سمح لجائحة كوفيد-19 بأن تصبح على ذلك القدر من السوء الذي كانت عليه.

إن تنفيذ مثل هذا الاقتصاد ليس طموحا كماليا. بل هو ضرورة إذا كنا راغبين في تجنب التكاليف البشرية ــ والاقتصادية ــ المترتبة على اندلاع جائحة أخرى. وإلى جانب تبني القرار، يتطلب هذا القيادة من منظمة الصحة العالمية ومندوبي البلدان الأعضاء. إذا كان لهدف الصحة للجميع أن يصبح أولوية قصوى ــ كما ينبغي له ــ فلابد أن ينعكس ذلك بشكل كامل في تصميم هياكل التمويل العام والسياسات الاقتصادية والصناعية والإبداع.

ترجمة: مايسة كامل      Translated by: Maysa Kamel

https://prosyn.org/ncsAoNnar