rajan82_BRENDAN SMIALOWSKIPOOLAFP via Getty Images_jeromepowell Brendan Smialowski/Pool/AFP via Getty Images

دور الاحتياطي الفيدرالي في فشل البنوك

شيكاغوـ يبدو أن هناك سبب واضح للانهيار الذي شهدته البنوك مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية. حيث أن تسعين بالمئة من الودائع في بنك وادي السيليكون (Silicon Valley Bank)، وبنك سيغنتشر ) (Signature Bank كانت غير مؤمنة؛ ومن المنطقي أن تكون الودائع غير المؤمنة معرضة للسحب المكثف. وفضلا عن ذلك، استثمر كلا البنكين مبالغ طائلة في السندات طويلة الأجل، التي انخفضت قيمتها السوقية مع ارتفاع أسعار الفائدة. وعندما باع بنك وادي السيليكون بعض هذه السندات لجمع الأموال، بدأت تظهر الخسائر غير المتحققة التي تكمن في محفظة سنداته. وعندئذ، أطلَقت عملية بيع الأسهم الفاشلة العنان للسحب المكثف للودائع، الأمر الذي حسم مصير البنك.

ولكن أربعة عناصر من هذا التفسير البسيط تشير إلى أن المشكلة قد تكون منهجية بدرجة أكبر. أولاً، عادة ما تكون هناك زيادة ضخمة في الودائع المصرفية غير المؤمن عليها عندما يشارك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في التيسير الكمي. إذ نظرًا لكون التيسير الكمي ينطوي على شراء الأوراق المالية من السوق مقابل احتياطيات البنك المركزي من السيولة (شكل من أشكال النقد)، فإنه لا يزيد فقط من حجم الميزانية العمومية للبنك المركزي، بل يؤدي أيضًا إلى التوسع في الميزانية العمومية للنظام المصرفي الأوسع وفي ودائعه غير المؤمن عليها القابلة للسحب.

وفي ورقة بحث عُرضت في مؤتمر "جاكسون هول" السنوي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، في أغسطس/آب 2022، لفتنا (بمعية المؤلفين المشاركين) الانتباه إلى هذه الحقيقة التي لم تُقدر حق قدرها. إذ مع استئناف بنك الاحتياطي الفيدرالي لسياسة التيسير الكمي خلال الوباء، ارتفعت الودائع المصرفية غير المؤمَّنة من 5.5 تريليون دولار تقريبا في نهاية عام 2019 إلى أكثر من 8 تريليونات دولار بحلول الربع الأول من عام 2022. وشهد بنك وادي سيليكون زيادة تدفقات الودائع الواردة من أقل من 5 مليارات دولار في الربع الثالث من عام 2019 إلى معدل 14 مليار دولار لكل ربع خلال المدة الذي اعتمدت فيها سياسة التيسير الكمي. ولكن عندما أنهى بنك الاحتياطي الفيدرالي التيسير الكمي، ورفع أسعار الفائدة، وتحول سريعًا إلى التضييق الكمي، انعكست هذه التدفقات. وبدأ بنك وادي السيليكون يلاحظ زيادة في تدفقات الودائع غير المؤمنة إلى الخارج (بعضها كان متزامنًا مع الانكماش الذي شهده قطاع التكنولوجيا، حيث بدأ عملاء البنك الذين انتابهم القلق إزاء ذلك في سحب الاحتياطيات النقدية).

ثانيًا، بعد أن استفادت العديد من البنوك من سيل الودائع، اشترت أوراق مالية سائلة طويلة الأجل مثل، سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، من أجل توليد عائد مربح: فارق سعر الفائدة الذي ولَّد عوائد أعلى مما كان على البنوك أن تدفعه مقابل الودائع. وعادة، لا يكون هذا محفوفًا بالمخاطر. إذ لم ترتفع أسعار الفائدة طويلة الأجل إلى معدلات كبيرة منذ مدة طويلة؛ وحتى لو بدأت في الارتفاع بالفعل، فإن المصرفيين يدركون أن المودعين غالبا ما يكونون متراخين، وسيقبلون معدلات الودائع المنخفضة لفترة طويلة، حتى عندما ترتفع أسعار الفائدة في السوق. وهكذا، شعرت البنوك بأمان بُناء على التجارب السابقة وبفضل المودعين.

ولكن الأمور كانت مختلفة هذه المرة، لأن المسألة تتعلق بودائع غير مؤمنة غير مستقرة. إذ نظرا لكونها وُلِّدت بقرار من البنك الاحتياطي الفيدرالي، فهي دائمًا ما كانت معرضة للتدفق كلما غيّر الاحتياطي الفيدرالي مساره. ونظرًا لأن كبار المودعين يمكنهم التنسيق فيما بينهم بسهولة، فإن الإجراءات التي يتخذها عدد قليل منهم يمكن أن تؤدي إلى سلسلة أخرى من الإجراءات. وحتى في البنوك السليمة، فإن المودعين الذين انتبهوا إلى مخاطر البنوك، واطلعوا على أفضل أسعار الفائدة التي تتيحها صناديق أسواق المال سيرغبون في حصولهم على تعويضات بأسعار فائدة عالية. إن فروق أسعار الفائدة الهائلة بين الاستثمارات و"الودائع النائمة" ستكون مهددة، مما يضعف ربحية البنوك وقدرتها على السداد. وكما يقول مثل في القطاع المالي، "الطريق إلى الجحيم ممهد بالاقتراض الإيجابي".

ويتمثل مصدر القلق الثالث في كون هذين العنصرين المذكورين سلفا قد ضُخما اليوم. إذ في المرة الأخيرة التي تحول فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى التيسير الكمي ورفع أسعار الفائدة، خلال المدة 2017-2019، كانت الزيادة مفاجأة وكبيرة بدرجة أقل؛ وتراجع حجم الأوراق المالية الحساسة للفائدة التي تحتفظ بها البنوك. لِذا، فإن الخسائر التي كان يجب للميزانيات العمومية للبنوك استيعابها كانت صغيرة، ولم تكن هناك عمليات إيداع، مع أن العديد من نفس العوامل كانت متوفرة. وهذه المرة، فإن معدل الزيادات في أسعار الفائدة، وسرعة وتيرتها، والممتلكات المصرفية للأصول الحساسة لسعر الفائدة ازدادت إلى حد بعيد، حيث اقترحت شركة تأمين الودائع الفيدرالية أن الخسائر غير المتحققة من حيازات الأوراق المالية المعروضة للبيع والمحتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق يمكن أن تتجاوز وحدها 600 مليار دولار.

Subscribe to PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Subscribe to PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

والشاغل الرابع هو التنسيق الإشرافي غير المقصود مع القطاع. إذ من الواضح أن العديد من المشرفين لم يدركوا تعرض البنوك المتزايد لمخاطر سعر الفائدة، أو أنهم لم يتمكنوا من إجبار البنوك على التقليل من حدة تعرضها لتلك المخاطر. ولو كان الإشراف أكثر فعالية (ما زلنا نحاول قياس مدى فشله)، لقل عدد البنوك التي تعاني من المشاكل اليوم. ومع ذلك، هناك مشكلة أخرى وهي أن المشرفين لم يُخضِعوا جميع البنوك لنفس المستوى من التدقيق الذي طبقوه على أكبر المؤسسات (التي كانت تخضع لاختبارات الإجهاد، من بين أمور أخرى). وقد تكون هذه المعايير التفاضلية قد تسببت في هجرة القروض العقارية التجارية المحفوفة بالمخاطر (خذ على سبيل المثال جميع مباني المكاتب الفارغ نصفها أثناء الوباء) من أكبر البنوك وأفضلها من حيث رأس المال إلى البنوك الصغرى ومتوسطة الحجم ذات الرسملة الضعيفة نسبيًا.

والمحصلة هي أنه في حين أن العديد من نقاط الضعف في النظام المصرفي خلقها المصرفيون أنفسهم، فإن الاحتياطي الفيدرالي ساهم أيضًا في المشكلة. إذ أدت نوبات التيسير الكمي الدورية إلى توسيع نطاق الميزانيات العمومية للبنوك، وحشوها بمزيد من الودائع غير المؤمن عليها، مما جعل البنوك تعتمد على السيولة السهلة على نحو متزايد. وتُفاقم هذه التبعية صعوبة الحد من التيسير الكمي وتشديد السياسة النقدية. وكلما زاد حجم التيسير الكمي وزادت مدته، زاد الوقت الذي يجب أن يستغرقه بنك الاحتياطي الفيدرالي عند تطبيع ميزانيته العمومية، ومن الناحية المثلى، رفع أسعار الفائدة.

ومما يُؤسف له أن مخاوف الاستقرار المالي هذه تتعارض مع تفويض بنك الاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم. إذ تتوقع الأسواق الآن أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في وقت تتجاوز فيه معدلات التضخم الهدف المحدد إلى حد بعيد، ويدعو بعض المراقبين إلى وقف التيسير الكمي. ويوفر بنك الاحتياطي الفيدرالي مرة أخرى السيولة بكميات كبيرة مستخدماً نافذة الخصم والقنوات الأخرى. وإذا لم تؤد مشاكل القطاع المالي إلى إبطاء النمو الاقتصادي، فإن إجراءات كهذه يمكن أن تطيل أمد الكفاح ضد التضخم وتزيد من تكلفته.

إن المحصلة النهائية واضحة: لا يسع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتجاهل دور سياساته النقدية (خاصة التيسير الكمي) في خلق الظروف الصعبة الراهنة، أثناء إعادته النظر في سلوكه ودوره الرقابي.

ترجمة: نعيمة أبروش    Translated by Naaima Ababrouch

https://prosyn.org/VaeE9fOar