بروكسلــ في السنوات الأخيرة، تضافرت جهود منظمات المجتمع المدني والقوى الفاعلة في الصناعة لحماية الرسائل المشفرة من تدخل الحكومة. في عصر المراقبة، كما يلاحظ مفوض مجلس أوروبا السابق لحقوق الإنسان، يُـعَـد التشفير "أداة شديدة الأهمية لضمان لحقوق الإنسان". وفي عملي الخاص في مجال الأمن والشؤون الخارجية كعضو في البرلمان الأوروبي، عاينت بنفسي صِدق هذه الملاحظة. يعتمد الناشطون، والصحافيون، والمدافعون عن حقوق الإنسان، والمواطنون العاديون جميعا على الحق في الخصوصية، وينظرون إليه باعتباره قيمة أوروبية أساسية تدعم حرية التعبير والديمقراطية ذاتها.
يُـعَـد التشفير أحد أهم التكنولوجيات التي تمكن الخصوصية في عالم اليوم، ولهذا السبب تعتمد عليه معظم الخدمات الأساسية عبر الإنترنت ــ تطبيقات المراسلة، والمكالمات، والبريد الإلكتروني، ومشاركة الملفات، والمدفوعات. يضمن الشكل الأكثر فعالية، end-to-end encryption "التشفير بين الطرفيات"، السماح للأطراف المتواصلة فقط بفك تشفير ورؤية محتوى رسائلهم، على نحو يجعل الوصول غير المصرح في حكم المستحيل (كما هي الحال مع تطبيقات مثل Signal أو WhatsApp).
لكن الحكومات ووكالات إنفاذ القانون كانت حريصة بشكل متزايد على الوصول إلى الاتصالات المشفرة، حتى لو كان ذلك يعني تقويض ثقة جماهير الناس في حماية الخصوصية. في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، تريد حكومات عديدة إضعاف تكنولوجيات التشفير تحت ستار مكافحة الإرهاب وغير ذلك من الجرائم.
الرسالة واضحة: كثير من الحكومات والسلطات لا ترى التشفير كضمانة لحقوق الإنسان، بل كعقبة. أنشأت المفوضية الأوروبية مجموعة عمل رفيعة المستوى حول "الوصول إلى البيانات من أجل إنفاذ القانون بشكل فعّال". وقد أوصت المجموعة، التي تتألف من ممثلي إنفاذ القانون، بـ"الوصول القانوني بموجب التصميم" إلى البيانات "بلا تشفير"، وهذا يعني أن خدمات الاتصالات ستكون ملزمة بتثبيت "أبواب خلفية" تمكن المحققين الجنائيين من الوصول إلى بيانات غير مشفرة.
بلغت حملة إضعاف التشفير ذروتها في عام 2022 مع تقدم المفوضية الأوروبية باقتراح يقضي باستنان قانون حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، الذي أُطـلِق عليه مسمى "مراقبة الدردشة" (Chat Control). هذا التنظيم كفيل بتمكين السلطات من فرض المسح العشوائي للرسائل الخاصة، بما في ذلك تلك التي تستعين بخدمات التشفير بين الطرفيات، للكشف عن مواد استغلال الأطفال جنسيا.
حتى لو جاء تبني مثل هذه التدابير قائما على أفضل النوايا، فإنها ستُـفضي حتما إلى خلق نقاط ضعف يمكن استغلالها من قبل جهات خبيثة. زعم محترفو تكنولوجيا المعلومات أن كسر التشفير بأمان أمر في حكم المستحيل؛ ذلك أن الأبواب الخلفية تخلق دوما ثغرات أمنية يمكن استغلالها. قبل بضعة أسابيع فقط، انتشرت أنباء تفيد بأن شركات الإنترنت الرئيسية في الولايات المتحدة اخـتُـرِقَـت من قبل جهات صينية من خلال قنوات بيانات يمكن الوصول إليها بشكل قانوني.
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
تحذر وكالات استخباراتية (بما في ذلك في هولندا) بحق من أن تقويض التشفير يشكل تهديدا شديدا للأمن السيبراني. في الواقع، استبعدت المناقشات الجارية داخل مجلس الاتحاد الأوروبي مسح الحسابات التي تعتبر بالغة الأهمية للأمن القومي، مما يكشف عن ازدواجية معايير صارخة.
ولا يشكل الأمن السيبراني القضية الوحيدة. حيث يدعو هذا التنظيم أيضا إلى طعن قانوني. ذلك أن ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية يحمي حق الخصوصية صراحة في اتصالات أي شخص، وقد أوضحت محكمة العدل الأوروبية أن المسح العشوائي والشامل للاتصالات الخاصة يشكل انتهاكا غير متكافئ لهذا الحق. كما توصلت تحليلات داخلية مستقلة أجراها كل من مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي إلى استنتاجاتمماثلة، وأثار مجلس حماية البيانات الأوروبي ومشرف حماية البيانات الأوروبي مخاوف تتعلق بالخصوصية والفعالية بشأن القانون المقترح. فرغم كل شيء، يستطيع المجرمون التحايل بسهولة على الكشف.
فشلت المفوضية الأوروبية أيضا في معالجة الآثار الأوسع نطاقا المترتبة على اعتراض الرسائل المشفرة تحت ذريعة مكافحة إساءة استغلال الأطفال جنسيا. الواقع أن وكالات إنفاذ القانون، مدفوعة بشهية تكاد تكون غير محدودة للبيانات، ستضغط في الأرجح في اتجاه توسيع نطاق نظام المراقبة ليشمل مجالات أخرى. وقد أوصت وكالة الشرطة الأوروبية يوروبول بالفعل بهذا. وعلى النقيض من تأكيدات المفوضية، لا تزال شكوك كبرى قائمة حول فعالية وجدوى البرامج المستخدمة للكشف عن إساءة استغلال الأطفال وجدارتها بالثقة.
لكل هذه الأسباب، استقر البرلمان الأوروبي على نهج أكثر توازنا، فاستبعد المسح على الخدمات المشفرة وقصر المراقبة على المشتبه بهم المستهدفين أو مجموعات من المشتبه بهم.
في الوقت ذاته، يناقش مجلس الاتحاد الأوروبي نهجا يُعرف بمسمى "المسح من جانب العميل"، والذي بموجبه يجري اعتراض الرسائل قبل إرسالها. ولكن في حين تُـقَـدَّم هذه الطريقة على أنها حل وسط بين الخصوصية، والأمن، وحماية الأطفال، فإن ما تفعله في حقيقة الأمر هو المساس بسلامة التشفير، وهذا يثير في نهاية المطاف ذات المخاوف المتعلقة بالخصوصية والأمن السيبراني.
إن قبول هذا النهج لا يبشر بأي خير فيما يتصل بحماية الخصوصية في أوروبا. لكن المفوض الأوروبي الجديد للشؤون الداخلية والهجرة، ماجنوس برونر، قال إنه "مقتنع بإلحاح وضرورة اعتماد التنظيم المقترح". وأثناء جلسات استماع أمام البرلمان الأوروبي، رفض الالتزام بحماية التشفير، وتجنب الإجابة على أسئلة حول استخدام برامج التجسس من قِـبَـل حكومات الاتحاد الأوروبي، وهي طريقة أخرى شديدة التوغل للالتفاف على التشفير.
التشفير ليس مجرد ضمانة تقنية؛ بل هو حجر الزاوية لحقوقنا الرقمية وحرياتنا الديمقراطية. مع استمرار المناقشات حول اقتراح قانون حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، يجب أن نظل يقظين في مواجهة السياسات التي تقوض هذه القيم تحت ستار السلامة. إن إضعاف التشفير لا يعرض للخطر الخصوصية الفردية فحسب، بل وأيضا النظام البيئي الرقمي في عموم الأمر.
بدلا من تجريف التشفير، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يُـناصِـر جهود حماية الخصوصية القوية التي تُوجِـد التوازن بين احتياجات الأمن والحقوق الأساسية. بوضع هذا التوجه في الاعتبار، وَقَّـعْتُ على تعهد بحماية التشفير. لا يتعلق الأمر بالدفاع عن التكنولوجيا فحسب؛ بل وأيضا بالدفاع عن المبادئ التي تحدد هويتنا كمجتمع.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
To have unlimited access to our content including in-depth commentaries, book reviews, exclusive interviews, PS OnPoint and PS The Big Picture, please subscribe
Bashar al-Assad’s fall from power has created an opportunity for the political and economic reconstruction of a key Arab state. But the record of efforts to stabilize post-conflict societies in the Middle East is littered with failure, and the next few months will most likely determine Syria's political trajectory.
say that Syrians themselves must do the hard work, but multilateral assistance has an important role to play.
The US president-elect has vowed to round up illegal immigrants and raise tariffs, but he will probably fail to reinvigorate the economy for the masses, who will watch the rich get richer on crypto and AI. America has been here before, and if Trump doesn’t turn on the business class and lay the blame at its feet, someone else will.
thinks the next president will be forced to choose between big business and the forgotten man.
بروكسلــ في السنوات الأخيرة، تضافرت جهود منظمات المجتمع المدني والقوى الفاعلة في الصناعة لحماية الرسائل المشفرة من تدخل الحكومة. في عصر المراقبة، كما يلاحظ مفوض مجلس أوروبا السابق لحقوق الإنسان، يُـعَـد التشفير "أداة شديدة الأهمية لضمان لحقوق الإنسان". وفي عملي الخاص في مجال الأمن والشؤون الخارجية كعضو في البرلمان الأوروبي، عاينت بنفسي صِدق هذه الملاحظة. يعتمد الناشطون، والصحافيون، والمدافعون عن حقوق الإنسان، والمواطنون العاديون جميعا على الحق في الخصوصية، وينظرون إليه باعتباره قيمة أوروبية أساسية تدعم حرية التعبير والديمقراطية ذاتها.
يُـعَـد التشفير أحد أهم التكنولوجيات التي تمكن الخصوصية في عالم اليوم، ولهذا السبب تعتمد عليه معظم الخدمات الأساسية عبر الإنترنت ــ تطبيقات المراسلة، والمكالمات، والبريد الإلكتروني، ومشاركة الملفات، والمدفوعات. يضمن الشكل الأكثر فعالية، end-to-end encryption "التشفير بين الطرفيات"، السماح للأطراف المتواصلة فقط بفك تشفير ورؤية محتوى رسائلهم، على نحو يجعل الوصول غير المصرح في حكم المستحيل (كما هي الحال مع تطبيقات مثل Signal أو WhatsApp).
لكن الحكومات ووكالات إنفاذ القانون كانت حريصة بشكل متزايد على الوصول إلى الاتصالات المشفرة، حتى لو كان ذلك يعني تقويض ثقة جماهير الناس في حماية الخصوصية. في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، تريد حكومات عديدة إضعاف تكنولوجيات التشفير تحت ستار مكافحة الإرهاب وغير ذلك من الجرائم.
الرسالة واضحة: كثير من الحكومات والسلطات لا ترى التشفير كضمانة لحقوق الإنسان، بل كعقبة. أنشأت المفوضية الأوروبية مجموعة عمل رفيعة المستوى حول "الوصول إلى البيانات من أجل إنفاذ القانون بشكل فعّال". وقد أوصت المجموعة، التي تتألف من ممثلي إنفاذ القانون، بـ"الوصول القانوني بموجب التصميم" إلى البيانات "بلا تشفير"، وهذا يعني أن خدمات الاتصالات ستكون ملزمة بتثبيت "أبواب خلفية" تمكن المحققين الجنائيين من الوصول إلى بيانات غير مشفرة.
بلغت حملة إضعاف التشفير ذروتها في عام 2022 مع تقدم المفوضية الأوروبية باقتراح يقضي باستنان قانون حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، الذي أُطـلِق عليه مسمى "مراقبة الدردشة" (Chat Control). هذا التنظيم كفيل بتمكين السلطات من فرض المسح العشوائي للرسائل الخاصة، بما في ذلك تلك التي تستعين بخدمات التشفير بين الطرفيات، للكشف عن مواد استغلال الأطفال جنسيا.
حتى لو جاء تبني مثل هذه التدابير قائما على أفضل النوايا، فإنها ستُـفضي حتما إلى خلق نقاط ضعف يمكن استغلالها من قبل جهات خبيثة. زعم محترفو تكنولوجيا المعلومات أن كسر التشفير بأمان أمر في حكم المستحيل؛ ذلك أن الأبواب الخلفية تخلق دوما ثغرات أمنية يمكن استغلالها. قبل بضعة أسابيع فقط، انتشرت أنباء تفيد بأن شركات الإنترنت الرئيسية في الولايات المتحدة اخـتُـرِقَـت من قبل جهات صينية من خلال قنوات بيانات يمكن الوصول إليها بشكل قانوني.
HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
تحذر وكالات استخباراتية (بما في ذلك في هولندا) بحق من أن تقويض التشفير يشكل تهديدا شديدا للأمن السيبراني. في الواقع، استبعدت المناقشات الجارية داخل مجلس الاتحاد الأوروبي مسح الحسابات التي تعتبر بالغة الأهمية للأمن القومي، مما يكشف عن ازدواجية معايير صارخة.
ولا يشكل الأمن السيبراني القضية الوحيدة. حيث يدعو هذا التنظيم أيضا إلى طعن قانوني. ذلك أن ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية يحمي حق الخصوصية صراحة في اتصالات أي شخص، وقد أوضحت محكمة العدل الأوروبية أن المسح العشوائي والشامل للاتصالات الخاصة يشكل انتهاكا غير متكافئ لهذا الحق. كما توصلت تحليلات داخلية مستقلة أجراها كل من مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي إلى استنتاجاتمماثلة، وأثار مجلس حماية البيانات الأوروبي ومشرف حماية البيانات الأوروبي مخاوف تتعلق بالخصوصية والفعالية بشأن القانون المقترح. فرغم كل شيء، يستطيع المجرمون التحايل بسهولة على الكشف.
فشلت المفوضية الأوروبية أيضا في معالجة الآثار الأوسع نطاقا المترتبة على اعتراض الرسائل المشفرة تحت ذريعة مكافحة إساءة استغلال الأطفال جنسيا. الواقع أن وكالات إنفاذ القانون، مدفوعة بشهية تكاد تكون غير محدودة للبيانات، ستضغط في الأرجح في اتجاه توسيع نطاق نظام المراقبة ليشمل مجالات أخرى. وقد أوصت وكالة الشرطة الأوروبية يوروبول بالفعل بهذا. وعلى النقيض من تأكيدات المفوضية، لا تزال شكوك كبرى قائمة حول فعالية وجدوى البرامج المستخدمة للكشف عن إساءة استغلال الأطفال وجدارتها بالثقة.
لكل هذه الأسباب، استقر البرلمان الأوروبي على نهج أكثر توازنا، فاستبعد المسح على الخدمات المشفرة وقصر المراقبة على المشتبه بهم المستهدفين أو مجموعات من المشتبه بهم.
في الوقت ذاته، يناقش مجلس الاتحاد الأوروبي نهجا يُعرف بمسمى "المسح من جانب العميل"، والذي بموجبه يجري اعتراض الرسائل قبل إرسالها. ولكن في حين تُـقَـدَّم هذه الطريقة على أنها حل وسط بين الخصوصية، والأمن، وحماية الأطفال، فإن ما تفعله في حقيقة الأمر هو المساس بسلامة التشفير، وهذا يثير في نهاية المطاف ذات المخاوف المتعلقة بالخصوصية والأمن السيبراني.
إن قبول هذا النهج لا يبشر بأي خير فيما يتصل بحماية الخصوصية في أوروبا. لكن المفوض الأوروبي الجديد للشؤون الداخلية والهجرة، ماجنوس برونر، قال إنه "مقتنع بإلحاح وضرورة اعتماد التنظيم المقترح". وأثناء جلسات استماع أمام البرلمان الأوروبي، رفض الالتزام بحماية التشفير، وتجنب الإجابة على أسئلة حول استخدام برامج التجسس من قِـبَـل حكومات الاتحاد الأوروبي، وهي طريقة أخرى شديدة التوغل للالتفاف على التشفير.
التشفير ليس مجرد ضمانة تقنية؛ بل هو حجر الزاوية لحقوقنا الرقمية وحرياتنا الديمقراطية. مع استمرار المناقشات حول اقتراح قانون حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، يجب أن نظل يقظين في مواجهة السياسات التي تقوض هذه القيم تحت ستار السلامة. إن إضعاف التشفير لا يعرض للخطر الخصوصية الفردية فحسب، بل وأيضا النظام البيئي الرقمي في عموم الأمر.
بدلا من تجريف التشفير، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يُـناصِـر جهود حماية الخصوصية القوية التي تُوجِـد التوازن بين احتياجات الأمن والحقوق الأساسية. بوضع هذا التوجه في الاعتبار، وَقَّـعْتُ على تعهد بحماية التشفير. لا يتعلق الأمر بالدفاع عن التكنولوجيا فحسب؛ بل وأيضا بالدفاع عن المبادئ التي تحدد هويتنا كمجتمع.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali