Traffic in Shanghai Peter Parks/Getty Images

تحول الصين إلى النمو بقيادة المدن

شنغهاي ــ حققت الصين نحو أربعة عقود من النمو الاقتصادي السريع. ولكن أحد مصادر النمو القوي لم تستغل بالكامل بعد: التوسع الحضري. والآن تحظى إمكانات المدن الكبرى كمحرك للدينامية وزيادة الرخاء بالمستوى الرفيع الذي تستحقه من الاهتمام أخيرا.

على مدار العقد المنصرم، كانت الصين تعمل على التحول من نموذج النمو الذي تقوده الصناعات التحويلية والذي يتغذى على العمالة المنخفضة التكلفة إلى نموذج القيمة المضافة الأعلى الذي يقوده الإبداع وتدعمه مكاسب الإنتاجية القوية. وسوف يلعب التوسع الحضري دورا حاسما في تسهيل هذا التحول، وخاصة من خلال تمكين الاقتصادات ذات الحجم الكبير.

في الوقت الحالي، ورغم أن الصين هي الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالَم وصاحبة ثاني أكبر اقتصاد، يعيش نصف سكانها فقط في المناطق الحضرية، وأقل من 10% من سكانها يقيمون بشكل دائم في المدن الكبرى. ويظل معدل التوسع الحضري في الصين أقل كثيرا من المتوسط العالمي.

كان النمو في مدن الصين الكبرى ــ العواصم الحضرية التي يزيد عدد سكانها عن عشرة ملايين نسمة ــ مقيدا بشدة لفترة طويلة بفِعل التقسيمات الإدارية الصارمة التي تفرضها الدولة وهيئات التخطيط. والواقع أن المدن الضخمة، التي لاحقت التصنيع السريع، كانت غالبا أقل نجاحا من المدن الأصغر حجما ــ والتي تجنبت هذه القيود إلى حد كبير ــ في جمع رأس المال الإنتاجي واجتذاب الاستثمار المباشر الأجنبي، وإظهار روح المبادرة التجارية.

في تسعينيات القرن العشرين، أصبحت مدينة كونشان الصغيرة مركزا رائدا في الصين لتصنيع المنتجات الإلكترونية. ومن خلال دمج نفسها في سلاسل العرض العالمية، لعبت المدن الصغيرة في مقاطعة قوانجدونج ــ بما في ذلك دونج قوان، وهويتشو، وشوند، وتشونجشان، دورا حاسما في ترسيخ شهرة الصين بوصفها "مصنع العالَم".

ولكن في حين يستحق نجاح المدن الصغيرة الاحتفال، فإن المدن الصينية الضخمة هي حيث تتوفر أعظم إمكانات تغذية التقدم المستقبلي في الإنتاجية ــ وبالتالي نمو الناتج المحلي الإجمالي. وحتى الآن، لا يوجد في الصين سوى أربع مدن من "الدرجة الأولى" (حيث يتجاوز عدد السكان 20 مليون نسمة): بكين، وشنغهاي، وقوانجتشو، وشنتشن.

Secure your copy of PS Quarterly: The Year Ahead 2025
PS_YA25-Onsite_1333x1000

Secure your copy of PS Quarterly: The Year Ahead 2025

Our annual flagship magazine, PS Quarterly: The Year Ahead 2025, has arrived. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Digital Plus now.

Subscribe Now

ونظرا لحجم سكان الصين واقتصادها، فإن هذا ليس كثيرا. وفي واقع الأمر، لا يوجد من الأسباب ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه المدن الضخمة حققت أقصى إمكاناتها، سواء من حيث عدد السكان أو مساهمتها في النمو الاقتصادي. والصين لديها علاوة على ذلك العديد من المدن الديناميكية من الدرجة الثانية ــ مثل تشنجدو، وتيانجين، وهانجتشو، فضلا عن ووهان وسوتشو ــ والتي يمكنها بلوغ مرتبة الدرجة الأولى إذا حظيت بالفرصة.

ومن أجل تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستفادة من المدن الصينية، يتعين على الحكومة أن تكون أكثر تكيفا ومرونة، وخاصة عندما يتصل الأمر بسيطرتها الصارمة على نسب تنمية الأراضي الحضرية. وبشكل خاص، يتعين على الصين أن تتخلى عن نظام حصص الأراضي، الذي لا يحد من مساحة الأراضي التي تستطيع المدن تنميتها لتعزيز نمو الإنتاجية في المستقبل فحسب، بل وأيضا يخصص حصة غير متناسبة من الأرض للمصانع. وإلا فإن التوسع الحضري سوف يستمر في دفع تكاليف الإسكان المرتفعة بالفعل إلى المزيد من الارتفاع، ولكن ليس بالقدر الكافي من الكفاءة لتمكين النمو المستدام والتنمية.

الخبر السار هنا هو أن الحكومات المحلية تعمل بالفعل مع الحكومة المركزية على تخفيف أو حتى إزالة القيود الإدارية القائمة. ففي الصين، تضم الحدود المعينة إداريا للمدن الصينية الولايات الإدارية الحضرية والريفية، حيث تعمل الأخيرة ــ التي يطلق عليها وصف "المقاطعات" ــ في الأعمال الزراعية أساسا. على سبيل المثال، سنجد أن نحو نصف الولاية الإدارية لمدينة شنغهاي التي تبلغ مساحتها 6340 كيلومترا مربعا (2448 ميلا مربعا) مناطق ريفية.

والآن تقدم الحكومات المحلية ما يسمى التحويل بين المقاطعات والمناطق، من أجل تمديد المناطق الحضرية إلى الولايات الإدارية الريفية. ومن شأن هذه الجهود، التي تؤيدها الحكومة المركزية كليا، أن تعمل على تمكين بناء المزيد من البنايات السكنية والتوسع الصناعي والتجاري.

وتتلخص استراتيجية أخرى لتعزيز انتقال الصين نحو نموذج النمو الذي تقوده المدن في توسيع الدور الذي تلعبه التكتلات الحضرية التي تعمل على تعزيز قوة المدن من الدرجة الأولى لدعم النمو في المناطق الأقل نموا. ومن منظور اقتصادي، تُعَد دلتا نهر يانجتسي ودلتا نهر بيرل ــ اللتان تضمان مدنا ضخمة مثل قوانجتشو، وشنغهاي، وشينتشين ــ التكتلات الحضرية الأكثر أهمية من هذا النوع بلا أدنى شك، وهي مجهزة لتوليد مكاسب الإنتاجية الأعلى في المستقبل بفضل الاقتصادات ذات الحجم الكبير والتكاملية.

وهنا أيضا أدركت القيادة الصينية أهمية الأمر. ففي مارس/آذار الفائت، أعلن رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانج خطة لتطوير مجموعة من المدن في منطقة خليج قوانجدونج-هونج كونج-ماكاو الكبرى، التي تغطي تسع مدن، بما في ذلك قوانجتشو وشينتشين، فضلا عن مناطق الإدارة الخاصة في هونج كونج ومكاو.

في الفترة من 2010 إلى 2016، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي السنوي لمنطقة الخليج الكبرى من 5.42 تريليون يوان صيني (820 مليار دولار أميركي) إلى 9.35 تريليون يوان صيني (1.42 تريليون دولار أميركي)، لكي تصبح ثالث أكبر اقتصاد حضري في العالَم، بعد طوكيو ونيويورك. بيد أن عدد سكان منطقة خليج قوانجدونج-هونج كونج-ماكاو الكبرى ينمو بسرعة، ويظل نصيب الفرد في ناتجها المحلي الإجمالي أقل من نصف نظيره في طوكيو، مما يشير إلى أن إمكاناتها بعيدة تماما عن الاستنفاد.

فضلا عن ذلك، يبدو أن قادة الصين يتطلعون إلى منطقة خليج كبرى أخرى، تتمركز في خليج هانجتشو، والتي بفضل تداخلها مع دلتا نهر يانجتسي قادرة على قطع شوط طويل نحو دمج تلك المنطقة المزدهرة بالفعل. ومن الممكن أن يغطي مثل هذا التجمع مدينة شنغهاي الساحلية الضخمة، بالإضافة إلى نحو عشر مدن أخرى مهمة عبر إقليمي تشيجيانج وجيانجسو. وسوف يشمل هذا التجمع موانئ عالمية المستوى، مثل ميناء نينجبو-زوشان (الميناء الأكثر ازدحاما في العالَم من حيث الحمولة الطنية للبضائع). وسوف تغطي اثنتين من مناطق التجارة الحرة الإحدى عشرة في الصين. وسوف تكون النتيجة منطقة خليج على نطاق سان فرانسيسكو وطوكيو.

كانت وتيرة النمو الاقتصادي في الصين غير مسبوقة على مدار العقود الأربعة المنصرمة. ولكن الصين لم تستكمل بعد صعودها إلى مرتبة الدولة الغنية. وفي حين تعمل على تحديث اقتصادها ليصبح أكثر اعتمادا على المعرفة والتكنولوجيا، فإنها تستفيد مرة أخرى من مواطن قوتها. وليس هناك مثال أفضل على هذا من الجهود الجارية لاستغلال إمكانات المدن الضخمة.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/GMCGL9Mar